تتواصل التطورات السريعة في مجال التقنية المالية والمدفوعات الإلكترونية في المملكة بقيادة البنك المركزي السعودي "ساما"، وذلك بعد الانفتاح الكبير الذي قام به البنك في الأعوام القليلة الماضية لدعم المنافسة في هذا المجال الحيوي المهم. هذا التطور اللافت يأتي بعد أعوام من حالة شبه الاحتكار التي تمتعت بها البنوك التجارية في المملكة دون غيرها، وكثير من هذه الحلول جاءت من خلال مبادرة "فنتك السعودية" تحت إشراف البنك المركزي، وهي الكلمة التي تعني التقنية المالية السعودية. هذا الأسبوع أصدر البنك المركزي رخصة جديدة لإحدى الشركات المختصة بالمدفوعات الإلكترونية ليصبح عدد الشركات التي لديها تراخيص لتقديم النشاط 15 شركة. معظم شركات التقنية المالية تعمل في مجال المدفوعات الإلكترونية، ومن ثم يأتي بعد ذلك في الشعبية نشاط الإقراض والتمويل ثم مجال الحلول الإلكترونية للأعمال. في مجال الإقراض هناك عدة تطبيقات إلكترونية هدفها مساعدة الأفراد على الحصول على العروض التمويلية من المؤسسات المالية التقليدية والحديثة، حيث تقوم هذه التطبيقات بعرض تكلفة التمويل وتوجيه العميل إلى أفضل مصرف أو جهة تمويلية ومتابعة الطلب وعمل المقارنات اللازمة. وهناك منصات وتطبيقات أخرى موجهة للمؤسسات والشركات فقط، وهذه تندرج تحت ما يعرف بنشاط التمويل الجماعي بالدين، نستعرض طريقة عملها وضوابط مزاولة نشاطها فيما يلي. آلية التمويل خارج البنوك التجارية موجودة منذ أعوام طويلة تحت إشراف البنك المركزي وتخضع لنظام مراقبة شركات التمويل، وهو النظام ذاته الذي تخضع له شركات التمويل الجماعي بالدين، لكن بحكم أن هذا النشاط يتم بشكل إلكتروني ويعتمد على أموال المشاركين من أفراد وشركات لتمويل الجهات التي بحاجة إلى التمويل، فكان لزاما أن يتم إصدار قواعد منظمة له، وهذا بالفعل ما قام به البنك المركزي. طريقة عمل شركات التمويل الجماعي الموجه للشركات هي أن تتقدم الجهة الراغبة في الحصول على التمويل بطلب إلكتروني، ومن ثم تتولى شركة التمويل الجماعي جمع المبلغ المطلوب من الأفراد والشركات المختصة وتسليمه للجهة المستفيدة التي تقوم بسداده على أقساط شهرية، تماما كما يحدث في التمويل التقليدي من خلال البنوك. الاختلاف في طريقة التمويل الجديدة هذه هي أنها تتم بشكل إلكتروني ويسمح للأفراد والجهات المختصة بالمشاركة في التمويل، والحصول على عوائد مالية مقابل قيامهم بذلك، أي أن هذه الطريقة تجعل الفرد العادي يتصرف كأنه بنك أو جهة تمويلية. وفي بعض الحالات التي تمت متابعتها كانت نسب العائد مناسبة إلى حد كبير، وبكل تأكيد تفوق العوائد التي يمكن الحصول عليها من خلال الودائع البنكية التقليدية، وغني عن القول إن العائد المرتفع يأتي بمخاطرة عالية. للحصول على الترخيص اللازم لمزاولة نشاط التمويل الجماعي بالدين يجب أن يتم تأسيس شركة التمويل الجماعي من قبل جهات أو أشخاص لديهم الكفاءة اللازمة والشهادات المناسبة والخبرة الكافية في المجال كما يحددها البنك المركزي إلى جانب ضرورة مزاولة العمل بمهنية عالية وحوكمة داخلية وسياسات متعلقة بمكافحة الجرائم المالية وغسل الأموال، وممارسة قواعد الائتمان المتعارف عليها، وما إلى ذلك. الهدف من هذه التنظيمات هو أن شركة التمويل الجماعي تقع عليها مسؤوليات كبيرة بحكم إدارتها أموال الآخرين فيجب أن تمارس دورها بشكل نظامي وسليم. يجب ألا يقل رأسمال شركة التمويل الجماعي بالدين عن خمسة ملايين ريال، وأهمية ذلك في أنه لا يسمح لشركة التمويل بتقديم قروض تزيد على 40 ضعف رأسمالها، ولذا ستحتاج الشركات الناجحة إلى زيادة رأسمالها لتتمكن من الإقراض بما يتجاوز 200 مليون ريال. ولتقليص المخاطرة في هذه المنظومة لا يسمح لأي فرد أو جهة مشاركة بأن تمول ما يزيد على 25 في المائة من مبلغ التمويل، ولا يسمح للفرد بالمشاركة بأكثر من 50 ألف ريال في عملية التمويل، ولا أن تزيد مشاركته على 200 ألف ريال في العام الواحد. ربما تتغير هذه الضوابط مع مرور الوقت واكتساب الخبرة من قبل جميع الأطراف، كون هذه الضوابط صارمة نوعا ما. هنا نتكلم عن تمويل الشركات وليس الأفراد الذين ليس أمامهم إلا التوجه إلى القنوات التمويلية التقليدية أو من خلال بعض التطبيقات الجديدة لكن بمبالغ محدودة، مثل تطبيق سلفة وغيره من تطبيقات مشابهة هي عبارة عن وسيلة سريعة ومريحة للحصول على قرض بسيط، غالبا في حدود ألف إلى خمسة آلاف ريال مع إمكانية تجديد السلفة إذا كان الشخص منتظما في السداد. هدف القواعد الجديدة التي أصدرها البنك المركزي لتنظيم التمويل الجماعي هو ضبط العملية والحد من التجاوزات، لذا يشترط على شركة التمويل الجماعي أن تقوم بجمع الأموال في حساب مصرفي مخصص لهذا الغرض ولا يسمح لها باستخدام المبالغ المجمعة إلا في عملية الإقراض للشركات المتقدمة بطلب تمويل. كما أن الجهات التي تتقدم بطلب تمويل تخضع للدراسة والفحص فيما يخص هيئتها القانونية وجدارتها الائتمانية كما يحدد من قبل البنك المركزي، والهدف من ذلك ألا تصبح شركات التمويل الجماعي وسيلة للحصول على تمويل من قبل أطراف متلاعبة أو معدمة ماليا، ولا أن تكون ذات علاقة خاصة بشركة التمويل الجماعي ذاتها. ختاما، التطورات السريعة في مجال الدفع الإلكتروني والتقنية المالية عموما ستغير كثيرا من المفاهيم في الأعوام المقبلة، فكما رأينا أصبح بمقدور الفرد أن يعمل كبنك لإقراض الآخرين، وأصبح بمقدورنا الآن الدفع من خلال الهاتف المحمول أو متصفح الإنترنت، ودخلت شركات غير مالية في مجال التمويل والسداد، وفي الوقت نفسه بدأت البنوك التقليدية بالتحرك لمواجهة هذه التحديات من خلال الابتكار وتقديم الحلول الحديثة.
مشاركة :