بدأ القاص والروائي حاتم رضوان رحلته مع الكتابة منتصف الثمانينات حيث كان الحراك الثقافي والإبداعي في مصر أشبه بورش إبداعية كبرى نتيجة لحيوية وتعدد المقار الثقافية الرسمية والخاصة، والتي كان يحتضنها ويحضرها مبدعون ومثقفون من مختلف الأجيال. نشر أول مجموعاته القصصية عام 1991 “اللعب تحت المطر”، والتي فازت بجائزة الشاعرة سعاد الصباح للإبداع العربي، بعدها توالت أعماله على الرغم من توقفه بين الحين والآخر انشغالا بدراساته باعتباره طبيب عظام، لكنه ظل متواصلا مع المشهد الإبداعي والثقافي بكتاباته.. وفي هذا الحوار معه نتعرف على جانب من رؤاه وأفكاره ومراحل تطورها. بداية يقول رضوان “بدأت كتابة القصة القصيرة في الثمانينات، حينها كنت طالبا في كلية الطب، وكانت سعادتي كبيرة أن قمت بنشر عدد من هذه القصص في مجلة القصة وجريدة المساء ومجلة إبداع. كنا نعيش أيامها أجواء محفزة على الإبداع. كنا نلتقي في ندوة الروائي محمد جبريل في مقر جريدة المساء القديم وندوة نادي القصة بشارع القصر العيني ودار الأدباء وغيرها من الأماكن الثقافية التي أدت إلى ظهور جيل عظيم من المبدعين في الشعر والقصة أذكر منهم ياسر الزيات ومؤمن أحمد وعماد غزالي وصفاء عبدالمنعم ومحمد إبراهيم طه ومحمد الحمامصي وسعد القرش وعبدالمنعم الباز وسمير فوزي وكثيرين غيرهم”. خروج تام من عباءة الذاتية ويضيف “في ذلك الوقت بدأ علو نجم جيل الستينات وبدا تأثيرهم واضحا علينا، وكنا مفتونين بهم وبتجربتهم المميزة مثل سعيد الكفراوي وجار النبي الحلو ومحمود الورداني ومحمد جبريل ومن قبلهم العظيم يوسف إدريس، وكان هناك عدد من المجلات الثقافية وسلاسل الكتب التي اختفى الكثير منها الآن، كانت زهيدة الثمن وفي مقدور طبقتنا المتوسطة شراؤها مثل مجلتي أقلام والطليعة العراقيتين والعربي وعالم الفكر الكويتيتين والدوحة القطرية وسلسلتي إشراقات أدبية ومختارات فصول وعالم المعرفة ومن المسرح العالمي الكويتية، وما لم تسعفني الذاكرة لذكرها. أكرر، كان الجو الثقافي محفزا ورائعا، ووجدت من كبار الكتاب من كانوا يقفون إلى جواري ويشجعونني وأذكر منهم محمد جبريل والدكتور عبدالقادر القط وعبدالعال الحمامصي ونبيل عبدالحميد”. الكتابة والطب يوضح رضوان أنه في عام 1991 قام بتجميع القصص التي نشرها وضمها في مجموعة قصصية، وتقدم بها في جائزة سعاد الصباح للإبداع العربي، وفازت بالمركز الثالث على مستوى العالم العربي. لكنه انقطع بعدها لفترة انشغل فيها بالعمل والدراسات العليا، ثم عاد بروايتين الأولى “طرح النهر” التي سوف تظهر في معرض الكتاب بطبعة جديدة عن دار أكوان، وبعدها رواية “بقع زرقاء” وأخيرا أحدث رواياته “زاوية الشيخ” عن دار النسيم في 2020 وحاليا يعد لمجموعة قصصية جديدة. ويشير إلى أنه من مدينة بنها التي تبعد حوالي 45 كيلومترا شمال القاهرة، وتحيط بها المياه من الجنوب والشرق والغرب بحيث أصبحت شبه جزيرة. يقول “عشت فيها طفولتي وسنوات المدرسة وكان للمدينة حينها طابع خاص غير اليوم، تميزت بالهدوء والجمال، وكانت المواصلات بها عبارة عن عربة الحنطور، ظهرت كمكان بمعالمها في مجموعتي القصصية الأولى ‘اللعب تحت المطر’ ورواية ‘طرح النهر’ وكانت في الخلفية في روايتي ‘بقع زرقاء’ و’زاوية الشيخ"”. ويلفت رضوان إلى أن مجموعة “اللعب تحت المطر” تنوعت في أفكارها بين الهم الذاتي والهم العام وفي “بقع زرقاء” اقتربت الرواية من فلسفة الموت، عندما يقترب الإنسان من الموت، ويرى أمامه من رحلوا ويستعيد حساباته ومواقفه من الأهل والأصدقاء وربطها بالهم العربي الكبير وقضية فلسطين، ولكن بشكل غير مباشر وبصوت هامس. أما روايته الأحدث “زاوية الشيخ” فيعتبرها خروجا تاما من عباءة الذاتية وثورة على كل ما كتب حيث تعرض لقضية شائكة وهي الممارسات غير السوية التي تنتهجها بعض الطرق التي تدعي الصوفية من خلال ثلاثة أجيال من الشيوخ توارثوا طريقة ما عن بعضهم وعلاقاتهم غير السوية بشخوص الرواية. وحول أسباب إعادة طباعته لروايته الأولى “طرح النهر” أخيرا يقول رضوان “قررت إصدار طبعة جديدة منقحة من الرواية، والتي صدرت في طبعتها الأولى في سلسلة إبداعات هيئة قصور الثقافة، لعدة أسباب أولها نفاد نسخها وعدم توفرها وثانيها لإخراجها السيء ووجود كثير من أخطاء المراجعة، وثالثها لقربها من قلبي. أيضا كونها رواية مكان وتاريخ؛ تاريخ للمكان لمدينتي بنها والتحولات التي طرأت عليها من قبل ثورة يوليو حتى عصر الانفتاح الاقتصادي، وعرجت في أحداثها على تاريخ مصر، لكنه تاريخ شفاهي لا يوجد في الكتب، من أفواه الذين عاصروه، ووضع على لسان أبطال الرواية”. رواية مكان وتاريخ ويضيف “تحكي الرواية عن صديقين منذ الطفولة وأيام المدرسة لكل منهما خلفية عائلية مختلفة، وارتباطهما بمكان معين على النهر، وتعرفهما على رجل غريب أقام غرفة بالقرب من مكانهما المفضل، عن طريق حكاياته لهما تعرفا تقريبا على الدنيا، تاريخ المدينة وتاريخ مصر وعبدالناصر وحبه له وأسفاره إلى بلاد الله وشتى أنواع المعارف. يمر بطل الرواية في مراحل عمره بمحن مختلفة، وعند عودته بعد رحلة دراسته الجامعية في القاهرة وبعده النسبي عن مدينته، يفاجأ بالتغيرات التي حدث في مدينته وفقدانها لروحها وحميمية الأماكن التي عشقها”. ويؤكد رضوان أن دراسته للطب أثرت في شخصيته الأدبية ولو بشكل غير مباشر، يقول “مهنة تنمي في صاحبها أن يكون شديد الملاحظة من لحظة دخول المريض للكشف، حالته العامة، ملبسه، مشيته، ملامح وجهه، لونه، كيفية أخذ التاريخ المرضي للحالة، تحليل شخصيته إنها المفردات التي يحتاجها أي روائي لكتابة عمله”. ويتابع “بشكل مباشر تأتي في خلفية الأعمال، مثلا بطل رواية ‘طرح النهر’ طالب طب، وفي رواية ‘بقع زرقاء’ هناك دخول البطل في غيبوبة وإشرافه على الموت وشرح لأعراض بعض الأمراض التي تصيب بعض الأبطال، ولكن بصورة مضفرة في السرد. وأذكر تجربة لي في الكتابة للأطفال ‘زيزو وطأطأ في قصر الأسرار’ أفدت منها كوني طبيب عظام، نشر الكتاب ضمن سلسلة كتاب قطر الندى، وتناولت فيه من خلال قصة شيقة الهيكل العظمي والجهاز الحركي للإنسان وأهميته والنصائح المفيدة لصحته والأمراض التي تصيبه عند إهمالنا لها”. لكل كاتب عالمه يرى رضوان أنه بالنسبة إلى المشهد القصصي والروائي في مصر الآن فهو “يمتلئ بمئات من الروايات والمجموعات القصصية، بالطبع لا أستطيع متابعتها كلها، لكن القليل منها يروقني واعتبره جيدا، وهناك الكثير ما لا يرقى لأن يكون أدبا على الإطلاق، وعموما كثرة الأعمال ظاهرة صحية وسوف يكون الزمن كفيلا بفلترتها ليكون البقاء للأجمل والأصلح. أما المشهد الثقافي العام، إلا في ما ندر، فيفتقد إلى حركة نقدية جادة تتابع الأعمال الجيدة وتظهرها للسطح، هناك بعض الظواهر السلبية مثل الشللية وظاهرة البيست سيلر، ومن ينفخون في بعض من الكتاب من هم تحت المستوى، وفي المقابل هناك بعض الحركات الجادة في حياتنا الثقافية التي تحاول جاهدة لمناقشة أعمال الأدباء مثل منتدى المستقبل للفكر والإبداع وورشة الزيتون وملتقى السرد العربي”. ويكشف رضوان أن العمل الإبداعي عنده يكتب نفسه، ويضيف “غالبا لا أضع مخططات سابقة وتقسيمات محددة كأن يشمل الفصل الأول على كذا والثاني على كذا، وعندما أجلس إلى نفسي وأقرر الكتابة لا أضع في رأسي موضوعا أو فكرة معينة أو قضية ما، حيث أرى أن تناول القضايا والأفكار أولى بها المقالات التي تهدف إلى ترسيخ فكرة أو موضوع ما بصورة محددة تصل إلى القارئ مباشرة، أما الكتابة الأدبية وخاصة القصة والرواية فهي إعادة لكتابة الحياة وأحداثها ليس بصورة تسجيلية وبنفس طريقة حدوثها، ولكن بصورة جمالية فنية، ومن خلال منظور المبدع، هو ما نسميه بالواقع الفني”. رواية تقترب من فلسفة الموت ويتابع موضحا “إذا طفت إلى السطح قضية ما أثناء الكتابة يجب التعرض لها بصورة غير مباشرة ولغة هامسة بعيدة عن الخطابة والصوت العالي، إن الكتابة الجميلة تحفر على مهل في وجدان القارئ لتعيد تشكيله ونظرته إلى الحياة من وجه آخر أشد تأثيرا من الصراخ والصوت العالي.. لكنني في النهاية عندما أنظر إلى كتاباتي بعد انتهائي منها أجدني منحازا للجانب الإنساني والقضايا الإنسانية.. الإنسان هو جوهر هذا العالم ومن أجله تدور الحياة، وانطلاقا من ذلك ألمس في كتاباتي بعض الذاتية، لكنها ليست ذاتية مفرطة إنها تتفاعل مع العالم من حولها بشخوصه وأحداثه وأماكنه وقضاياه الخاصة والعامة، ذاتية لا تحاول القوقعة على نفسها بل الخروج من الداخل إلى الخارج لتمثل شرائح المجتمع”. ويشدد على أن الهم الأساسي له هو “الكتابة الجميلة التي تلمس القارئ وتجعله يتفاعل معها وتؤثر فيه، وتفتح أمامه أبواب التفكير، وتجعله يبحث عن إجابات لأسئلة قد يطرحها العمل الإبداعي، ليس بالضرورة أن تجيب عن الأسئلة، يكفيها إلقاء الضوء عليها ودق نواقيس الخطر من أجل المواجهة كما تطرحه. لا أحب الإسهاب والإطالة وإعطاء القارئ كل التفاصيل، رواياتي الثلاث قليلة في عدد صفحاتها، ولكني أترك في أحداثها فراغات لا تخل بفهمها، تدع عقل القارئ يعمل وينطلق خياله لاستكمالها، وكذلك قصصي القصيرة متوازنة ليس بها تطويل ممل أو قصر مخل وأتمنى عندما ينتهي القارئ من عمل لي أن يقول: الله”. ويرى رضوان أن “جيل أدباء الستينات لم يكن ليترسخ وضعه ويعلو نجمه دون مواكبته بجيل عظيم من النقاد الذين نظروا إلى أعمالهم ووضعوها في بؤرة رؤية القارئ، أذكر منهم محمود أمين العالم ورجاء النقاش ولويس عوض وفريدة النقاش وإبراهيم فتحي وغالي شكري وعبدالرحمن عوف وعبدالقادر القط وسامي خشبة وغيرهم.. أما الآن فإني أرى أن الحركة النقدية في تراجع نسبة إلى عدد المبدعين الذي تضاعف عدة مرات وظهر النقد الشللي والنقد مدفوع الأجر، ونقاد يعملون لحساب دور نشر بعينها نظير نشر كتبهم”. ويعيب رضوان على كثير من النقاد الإغراق في متابعة الأدباء الكبار الذين رحلوا والذين لا ينكر فضلهم وريادتهم، وتخصيص كتب لهم أكثر من متابعة الأجيال الحالية. كما لا ينكر المجهود الكبير الذي يقوم به عدد من النقاد الحاليين على الساحة، ويلتمس لهم العذر في عدم استطاعتهم متابعة كل ما هو مطروح من أعمال لكثرتها ومن هؤلاء النقاد زينب العسال وشوقي عبدالحميد يحيى وأحمد عبدالرازق أبوالعلا ومحمد السيد عيد ومحمد السيد إسماعيل ويسري عبدالله ومحمد عبدالباسط وأحمد علواني وأماني فؤاد ومحمد الشحات ومحمد سليم شوشة وأسامة جاد رغم أن بعضهم يعتبرون من المبدعين المجيدين في الشعر والقصة. الكتابة الأدبية وخاصة القصة والرواية هي إعادة لكتابة الحياة وأحداثها ليس بطريقة تسجيلية وإنما بصورة جمالية فنية ويقول “لكل كاتب عالمه الخاص يتفرد به عن غيره، يستقي منه شخوصه وأحداثه ويقوم ببنائه على الورق، وبالتأكيد هذا العالم انعكاس لذاته وكل ما حوله من متغيرات ولحظات فارقة في تاريخ مصر قد لا تكون ظاهرة مباشرة، وسواء تطرق لها المبدع بوعي أو غير وعي يجب على القارئ أن يستشفها، وعلى الناقد أن يبينها ويلقي عليها الضوء، حيث يمكننا التأريخ لحقبة ما من خلال الأدب المكتوب ومعرفة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لها”. ويختم “أعتقد أن هذه المهمة هي وظيفة الدارسين والنقاد. وهنا أشير إلى أن أعمالي حظيت بالعديد من المتابعات والقراءات النقدية ونشرت عنها بعض الفصول في كتب نقدية والمناقشة من بعض النقاد في ندوات أدبية أو برامج إذاعية، وحقيقي أنا ممتن لكل من كتب عني ولو كلمة، لقد تناولت بعض الكتب النقدية أعمالا لي مثل صورة الطفل في القصة القصيرة وأدباء الثمانينات لمصطفى القاضي وأجيال من الإبداع لزينب العسال والنص والمجهر لأحمد علواني وأنهار الحلم والملح لطارق عبدالوهاب”.
مشاركة :