تطرح مسرحية “على جسر عبدون” للمخرج الأردني باسم عوض جملة من التساؤلات الفلسفية والأخلاقية حول مشاكل مستمّدة من الواقع تتعلّق بالفقر واغتراب الفرد والصور النمطية تجاه المرأة وفئات مهمّشة اجتماعياً. والعمل الذي عرض على مدى ثلاثة أيام متتالية الأسبوع الماضي على خشبة “مسرح هاني صنوبر” في المركز الثقافي الملكي، من تمثيل الفنانين صلاح الحوراني العائد بعد غياب طويل إلى خشبة الفن الرابع، وإنجي لكود وسينوغرافيا الفنان التشكيلي غسان مفاضلة. جسر عبدون رمزية للوقوف على الدوافع التي قادت أناسا ألقوا بأنفسهم من فوقه أو حاولوا القيام بذلك واختار منتجو العمل لغة مسرحية تقترب من الجمهور وتعاين جانباً من حياته اليومية، فقد استند النص الذي أنتجته ورشة جمعت عوض والحوراني على مدار الأشهر الماضية، إلى رمزية جسر عبدون أو جسر كمال الشاعر للوقوف على الدوافع التي قادت أناسا ألقوا بأنفسهم من فوقه، أو حاولوا القيام بذلك، وكانت وسائل الإعلام تتناقل أخبار انتحارهم. وطرحت المسرحية جملة من التساؤلات الفلسفية والأخلاقية حول مشاكل مستمّدة من الواقع تدور في أغلبها في فلك الشعور بالاغتراب تمهيدا لرصد الأسباب التي قادت هؤلاء إلى إنهاء حياتهم إراديا، مؤكدين أن المسرح قادر على جعل المتلقي يتطهر من مخاوفه وهواجسه الحقيقية في الواقع من خلال طرحها بصدق وعمق وانفعالٍ يهدف إلى إثارة التفكير والتفاعل مع الحالات المختلفة التي ظهرت على المسرح، والمشاركة الوجدانية معها. وفي مجموعة من اللوحات أدّى الحوراني ولكود شخصيات عدّة تعيش معاناتها بأشكال مختلفة، فتستعيد إحدى الشخصيات طفولتها والأحلام التي عجزت عن تحقيقها نتيجة الضغوط والعوائق التي واجهتها، وتقارب شخصية أخرى لامرأة مجهولة النسب وما تعانيه من وصمة اجتماعية، وأخرى تتناول زواج القاصرات وآثاره المدمرة. وتقصّد المخرج في بناء المؤثرات البصرية والصوتية أن تشرح فكرة العمل وتبسّطها للمشاهد، مبتعداً عن أشكال فنية اعتمدت التغريب والتجريب في المشهد المسرحي الأردني طوال العقود الثلاثة الماضية، حيث صمّم الفنان غسان مفاضلة سينوغرافيا وديكور المسرحية بما يخدم رؤية المسرحية وفكرتها باستخدام جسر خشبي يقف على برميلين تتحرّك فوقه وبجواره الشخصيات. رواية "جسر عبدون" التي تشبه في تفاصيلها نصّ العرض المسرحي وتمّ تأليف الموسيقى خصيصاً للعرض لتشكل عنصراً رئيساً في المقدمة وعدة لوحات تتضمن قصائد ملحّنة لكلّ من الحلاج ومحمود درويش وتيسير سبول ذات طابع صوفي، وهي للموسيقي عبدالرزاق مطرية، وصمّم الإضاءة ماهر الجريان، فيما أُسند المكياج إلى منال المدبوح وشاركت في الغناء فوز شقير. وتذكّر المسرحية برواية بعنوان “جسر عبدون” للروائي والقاص الأردني قاسم توفيق التي تشبه في تفاصيلها نصّ العرض المسرحي، وفيها تناول الكاتب بانوراما سردية ترتحل خلالها الشخصيات عبر أمكنة متعددة، وتتداخل فيها الأصوات والمصائر، جاعلة من الواقع مسرحًا تجتمع فيه النقائض ذات السمات الشخصية والإنسانية على حد سواء، وقدَّمها الكاتب في عتبة الإهداء إلى والديه، واصفًا إياهما بأنهما “أول الأبرياء الذين عرفتُهم على الأرض”، وظهرت فيها رمزية “جسر عبدون” بوصفه أفقًا ممتدًّا تتناثر عند تخومه الأحلام، وتتبدد أو تلتئم حيوات الأشخاص الذين يحملونها. ويصف الكاتب روايته بأنها “تضجّ بالرغبات وجرأة الاقتحام والاكتشاف والتفتّح، تحاول أن تحتفي بكل ما في الحياة من جمال وانتصارات ومتع وأفكار نبيلة، دون أن يغمض الكاتب عينيه عما يسودها من فساد وخيبات وانكسارات وفجائع”، أما سماتها السردية فكانت “بانورامية ممتعة، تحضر فيها سير شخصيات تخوض مغامراتها على مسرح واسع للأحداث بين مكانين: ‘الدفة’ التي بنتها مخيلة الكاتب من واقعٍ لا يقل غرابة وخيالا، و’عمان’ المنطلق والمستقر لرحلة الآلام والتحدي”. وكشفت الرواية انعكاسات الآليات الاجتماعية المعاصرة، الناجمة عن تطورات العصر وعولمته على بنية الإنسان الذهنية وموقفه من العالم، وهو موقف يدخل إلى أعماق الإنسان ليحلل عوالمه السرّية، والطريقة التي تتركب بها شخصيته في المسافات الفاصلة بين ما تسرّه نفسه وما تعلنه. وكما جسّدت رواية “جسر عبدون” الأردنيين أدباء وعلماء، آباء وأمهات، بنون وبنات، حلاقون وعمال تنظيف.. وحيواتهم من على الجسر، شرّحت مسرحية “على جسر عبدون” هذه الثنائيات من منظور مسرحي علّها تقدم قراءة ولو جزئية لدوافع الانتحار الذي صار مأساة العصر.
مشاركة :