نعاصر في هذه الأيام واحدة من كبرى التظاهرات الثقافية، التي ساهمت على مر العقود في إبراز المكانة المرموقة لجمهورية مصر العربية، بصفتها نقطة فاعلةً في الثقافة العربية ومنبراً وقبلة للمثقفين والأدباء والمفكرين العرب، وإحدى أهم الأدوات التي ربطت ثقافتنا وتاريخنا العريق مع الثقافات الأخرى، ومدت إليها جسور التواصل والتعاون في مجالات الثقافة والأدب والفكر والفنون. أتحدث هنا عن «معرض القاهرة الدولي للكتاب» في نسخته الثالثة والخمسين، التي تؤسس على نحو جديد للجهود الحثيثة المبذولة لتعزيز مكانة اللغة والثقافة العربية بين ثقافات العالم، وتضع السبل لتوحيد آليات ربطها بثقافات العالم المختلفة. 0 seconds of 0 secondsVolume 0% ولقد حرصنا في «مركز أبوظبي للغة العربية» على المشاركة في هذا الحدث الثقافي الأكبر من نوعه على مستوى المنطقة العربية، لما للقاهرة، في قلوب المثقفين العرب وعقولهم من مكانة وقيمة متميزة، فقد جمعتهم تحت سقف واحد، ومهدت أمامهم طريق الربط بين ثقافتهم والثقافات الأخرى، من خلال ما تقدمه من فعاليات وملتقيات ثقافية ملهمة، وأعمال مهمة شكّلت نقاطاً مضيئة في السجل الثقافي لمصر والمنطقة بأكملها. وقد حرصنا أن تجيء مشاركتنا الأولى في هذه المنصة الثقافية استثنائيةً وغنيةً بالمبادرات والمشاريع النوعية، التي تجسّد أهداف المركز، وتتلاقى بشكل كبير مع أهداف معرض القاهرة الدولي للكتاب، فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى توحيد الجهود، وصياغة رؤى مبتكرة ومتجددة، لنرتقي باللغة العربية، ونعزز ريادتها العالمية بوصفها لغة ثقافة وعلم وإبداع، لذا جاء اختيارنا للترجمة عنواناً رئيساً لمشاركتنا في المعرض؛ لأن الترجمة كانت وستبقى الجسر الذي يصل بين الحضارات، لتكوّن منظومة عالمية متكاملة تتشارك فيها العقول والأفكار، لإبداع ما فيه خير الإنسانية ورفعتها. فالترجمة هي وسيلة فعّالة لنقل صورة إيجابية وصادقة عن الإبداعات العربية للعالم، وتسليط الضوء على تميز أعمال مفكرينا وأدباءنا منذ القدم، وتحقيق تواصل ثقافي فعّال، والمساهمة في تطوير مسارات المعرفة. وهنا تجدر الإشارة إلى عميد الأدب العربي طه حسين، الذي قدم من المنجزات للثقافة العربية، ما يشكّل مصدر فخر واعتزاز لكل مثقف عربي، بل لكل إنسان استهوته الفنون الأدبية العربية، لما تركته إبداعاته ودراساته وترجماته من تأثير جوهري في الحراك الثقافي لمنطقتنا العربية والعالم، قدمت ثقافتنا العربية بأبهى صورها للعالم بأسره. كما أن عليّ، وأنا أتحدث من هذا المحفل الثقافي في أرض الكنانة، أن أتذكر فارساً من فرسان المعرفة والثقافة العربية، أسهم في بناء جسور التواصل مع ثقافة العالم، من باب الترجمة والإبداع في صناعة الكلمة المؤثرة. إنني أتكلم هنا عن فارس ترجل أخيراً عن صهوة الكلمة والمعرفة والثقافة، لتبقى إسهاماته وأعماله شاهدة على كبير عطائه، ولتبقى مؤلفاته منارة يهتدي بها محبو العربية ورواد المعرفة، إنه الأخ والصديق والناقد الكبير الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة المصري الأسبق، وأحد ألمع النقّاد والمفكرين في المنطقة، وصاحب المؤلفات والترجمات البارزة في الدراسات الأدبية والنقدية، التي حازت الإعجاب والتقدير. واسمحوا لي في الختام أن أقول: إن تكريم المبدعين وتخليد ذكراهم والتعريف بأعمالهم رسالة نبيلة؛ لأن الاحتفاء بالعقول ركيزة رئيسة لمواصلة الإبداع لخدمة الإنسانية، كما أنه يشكل نهجاً راسخاً لدينا في مركز أبوظبي للغة العربية، الذي يسعى لتكريم والاحتفاء بكل من يسهم في ترك بصمة ملهمة في صناعة معرفة حقيقية وفكر وأدب عربي قادر على بناء جسور تواصل حضاري مع الآخر، ويسهم في ترسيخ مكانة لغتنا العربية عنواناً لهويتنا، ووسيلة للتلاقي مع ثقافات العالم من حولنا. ولهذا فإنني في هذه الكلمات أستذكر قامات كان لها بصمات خالدة لا تُنسى في مسيرة العطاء لخدمة العربية وتعريف العالم بها، فمن عميد الأدب العربي طه حسين إلى الدكتور جابر عصفور وغيره من كبار المثقفين والمبدعين في مصر، من أمثال: نجيب محفوظ، ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وحسن حنفي، وفاروق شوشة، وجمال الغيطاني، وفؤاد زكريا، رحمهم الله، ومن أمثال: أحمد عبدالمعطي حجازي، وصلاح فضل، مدّ الله في عمرهم، تَقصُر المسافات والأزمان، وتَعظُم الإنجازات والعطاءات، وتعجز الكلمات، وتبقى الآثار لتلهم الأجيال.. فرحم الله جابر عصفور، الذي ارتبط بطه حسين من خلال استلهام رؤيته ومنظوره الحضاري والنقدي، ولعل كتاب «المرايا المتجاورة» يشكل أفضل الدراسات عن مشروع طه حسين النقدي وتطور هذا المشروع ومرجعياته وصلته بالنقد العربي والغربي.. إن الثقافة العربية تفقد أحد أعمدتها، وعزاؤنا اليوم ما تركه من مؤلفات وأعمال تشكّل مرجعاً، لمواصلة المسيرة والعطاء لخدمة اللغة العربية والوصول بها لمكانتها العالمية التي تستحقها.
مشاركة :