مع تصاعد الأزمة الأوكرانية في ظل المخاوف الغربية من غزو روسي محتمل للبلاد تكون كييف في مفترق طرق أمام أزمة الطاقة التي من المحتمل أن تعيشها القارة الأوروبية. ومثلت أوكرانيا منذ فترة طويلة حلقة وصل بين الشعوب والحضارات والتجارة وجسرا للغزوات العسكرية، لكن مع تصعيد روسيا لتهديداتها ضدها مرة أخرى باتت مصادر الطاقة أحدث سلاح في سياق هذه الأزمة من طرف موسكو. قطع إمدادات الطاقة فيما يواصل الغرب مساعيه لنزع فتيل الأزمة بين أوكرانيا وروسيا من خلال الطرق الدبلوماسية، يطرح البعض تساؤلات عن تداعيات الغزو الروسي المحتمل، حيث يشدد هؤلاء على أن القارة الأوروبية ستكون أول من يكتوي بناره. روبن إم ميلز: أي نزاع بين روسيا وأوكرانيا قد يؤدي لقطع إمدادات الطاقة الأوروبية وتزود روسيا نحو 40 في المئة من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، وبينما لا تشتري بريطانيا الغاز الروسي بطريقة مباشرة، إلا أنها مرتبطة بالقارة وجزء من نفس السوق. وارتفعت أسعار الغاز في كل من أوروبا والعالم إلى مستويات قياسية منذ شهر سبتمبر، مما أدى أيضًا إلى ارتفاع أسعار الكهرباء في القارة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق. وأدى الانتعاش الاقتصادي بعد مرحلة الإغلاق الذي صاحب جائحة كوفيد – 19، فضلا عن الانقطاعات الفنية بسبب الطقس، إلى خلق توتر في السوق، وفاقمت روسيا من حدة ذلك التوتر، حيث خفضت مبيعات الغاز ولم تعد ملء منشآت التخزين تحت الأرض التي تمتلكها في أوروبا، وسيرفع أي قتال جديد بين روسيا وأوكرانيا الأسعار إلى مستويات أعلى. وقال روبن إم ميلز، وهو الرئيس التنفيذي لشركة قمر للطاقة ومؤلف كتاب “أسطورة أزمة النفط”، إن “أي نزاع جديد بين روسيا وأوكرانيا قد يؤدي إلى قطع إمدادات الطاقة الأوروبية من خلال ثلاث طرق، فمن الواضح أن أيًا من الجانبين يمكن أن يلحق الضرر بالبنية التحتية من خلال الهجمات الإلكترونية أو التخريب، وسيشمل التخريب خطوط أنابيب الغاز الرئيسية التي تمر عبر أوكرانيا والتي تنقل حاليًا حوالي 13 في المئة من إجمالي واردات أوروبا، بالإضافة إلى الفرع الجنوبي من خط أنابيب النفط ‘دروزبا’، الذي يمر عبر بيلاروسيا إلى غرب أوكرانيا وإلى سلوفاكيا والتشيك والمجر”. وأوضح إم مليز أن “الطريقة الثانية هي أن تقطع روسيا الإمدادات عن عمد كجزء من عمليتها العسكرية السياسية، وسيؤثر ذلك أيضًا على الغاز القادم عبر بيلاروسيا إلى بولندا، وخط أنابيب ‘نورد ستريم’ تحت بحر البلطيق مباشرة والمتجه إلى ألمانيا، ويعتبر خط أنابيب ‘نورد ستريم 2’ الجديد جاهزا من الناحية الفنية، والذي سيحل محل معظم الكميات التي تعبر من أوكرانيا، ولكن لم تتم الموافقة عليه قانونيا من قبل ألمانيا لبدء العمليات”. وتابع أن “الطريقة الثالثة هي من خلال فرض العقوبات ردًا على العمل العسكري الروسي، حيث إنه من المرجح أن تقوم أوروبا والولايات المتحدة بحظر الاستثمار ومنع نقل التكنولوجيا، وحظر التعامل مع المؤسسات المالية الكبرى، وتحديد أفراد معيّنين مرتبطين بالكرملين وثرواتهم”. وكان نائب رئيس مجلس الشيوخ الروسي نيكولاي جورافليف قد قال إنه إذا انفصلت بلاده عن نظام الرسائل البنكية “سويفت” فإن المشترين “لن يستطيعوا استلام بضائعنا من النفط والغاز والمعادن”، لكن أوروبا وخاصة ألمانيا ستكون حذرة من منع واردات الغاز التي تحتاجها، في حين أن الرئيس الأميركي جو بايدن لا يريد أن يرى أسعار النفط ترتفع، لذلك من المرجح أن تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها بإعفاء المعاملات المتعلقة بالطاقة من أي قيود على التعاملات البنكية مع البنوك الروسية. مجازفة روسية ☚ موسكو ستدفع الثمن أيضا حيث سيكون من الصعب على ألمانيا التخلي عن أوكرانيا بإعطاء الضوء الأخضر لنورد ستريم 2 في حال تفجرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا فإن القارة الأوروبية لن تكتوي لوحدها بنارها، فموسكو أيضاً ستكون ضحيتها حيث يرى خبراء أنه سيكون من الصعب بالنسبة إلى ألمانيا التخلي عن أوكرانيا من خلال إعطاء الضوء الأخضر لـ”نورد ستريم 2″، لكن منتجات الطاقة تشكل 60 في المئة من الصادرات الروسية، وقد خضعت الفئات الأخرى بالفعل لقيود مختلفة، وإن العقوبات التي تستثني مبيعات الطاقة لن تكون فعالة في ردع سلوك الكرملين، لكن تضمينها قد يسبب الكثير من الآلام لأوروبا. وتعتمد تأثيرات مثل هذه السيناريوهات على كمية الغاز التي يتم قطعها، والمقدار الذي قد تعوضه روسيا بالتدفقات من خلال الطرق الأخرى، والكمية التي سيقبلها الأوروبيون، وما إذا كان الانقطاع يأتي بعد الشتاء، وكمّ الغاز المتبقي في الخزانات بحلول الربيع. ومنذ انقطاع الغاز الروسي عبر أوكرانيا في عام 2009، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، نجح الاتحاد الأوروبي في إعادة تشكيل شبكات الغاز الخاصة به حتى لا تتمكن موسكو من عزل الدول بشكل انتقائي، ويمكن تزويد أوكرانيا بالتدفق العكسي من الغرب، وقد قامت الأسواق المعزولة نسبيًا مثل ليتوانيا وكرواتيا ببناء محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال لجلب الوقود عن طريق الناقلات من المصدرين الرئيسيين مثل الولايات المتحدة وقطر والجزائر ونيجيريا. لكن لا تزال هناك نقاط ضعف في ذلك النظام، وأبرزها إسبانيا التي لديها قدرة كبيرة على استيراد الغاز الطبيعي المسال عبر خط أنابيب من الجزائر، لكن لديها خطوط إمداد محدودة مع بفرنسا وبقية القارة، ويمكن إعادة تشغيل حقل جرونينجن الرئيسي في هولندا في حالة الطوارئ، والذي تم إغلاقه إلى حد كبير بسبب الهزات. وكانت الاستجابة الفورية من طرف الولايات المتحدة هي توفير إمدادات الغاز الطبيعي المسال الاحتياطية. وزادت قطر، التي كانت حتى وقت قريب أكبر مُصدر للغاز في العالم، من إنتاجها لمساعدة اليابان بعد حادثة فوكوشيما في عام 2011، ولكن تعمل قطر الآن مع المصدرين الرئيسيين الآخرين مثل أستراليا والولايات المتحدة على أقصى تقدير للاستفادة من السوق المزدهرة. وبافتراض أن الموردين سيكونون على استعداد لتجاهل التزاماتهم أو إعادة التفاوض على الالتزامات التعاقدية مع اليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها، فيمكن لأوروبا إغراء الشحنات بتغيير مسارها بعيدًا عن شرق آسيا، ولكن فقط من خلال دفع أسعار أعلى بكثير. اقرأ أيضا: الجزائر عاجزة عن إحداث أي فرق في سوق الغاز العالمية ولن يؤثر عقد اتفاق نووي جديد مع إيران على سوق الغاز بشكل مباشر، لكنه سيطلق حوالي 1.3 إلى 1.5 مليون برميل من صادرات النفط يوميًا، مما سيساعد على تغطية أي انقطاع للإمدادات من روسيا، كما أنه سيجنب خطر حدوث أزمات متزامنة ومتفاقمة بشأن أوكرانيا والخليج العربي. ومن شأن انخفاض أسعار النفط أن يخفف من الضغط السياسي على الرئيس بايدن ويجعل من فرض عقوبات أشد على روسيا أمرا مرحبا به. وإذا تعطلت صادرات النفط الروسية، فسيتعين على أعضاء أوبك+ الذين ينسقون مستويات الإنتاج، لاسيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والعراق، أن يقرروا ما إذا كانوا سيزيدون الإنتاج لتعويض العجز. وفي غضون عام أو عامين ستصل إمدادات إضافية من الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، كما تعمل قطر وربما الإمارات العربية المتحدة أيضا على توسيع قدراتهما، لكن تلك القدرات لن تكون جاهزة إلا بحلول عام 2026. وإذا استمرت المواجهة بين روسيا وأوكرانيا أو تفاقمت، فسوف يتعزز موقف الأوروبيين بمرور الوقت حيث يقومون بتحسين العزل المنزلي، وزيادة العمل على الطاقة المتجددة، وربما إحياء الطاقة النووية، والبدء في استخدام الهيدروجين للتخزين الموسمي والوقود الصناعي. ويمكن لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وعُمان ومصر والمغرب وربما قطر، أن تصبح جميعها من الموردين الرئيسيين للطاقة النظيفة الجديدة. واعتبر إم مليز أن “روسيا تلحق أضرارا جسيمة باقتصادها ومستقبل قطاع الطاقة الخاص بها للمدى البعيد، ولكن خلال الأشهر القليلة المقبلة قد تشهد سوق الطاقة في أوروبا تقلبات واضطرابات كبيرة، كون الحدود الأوكرانية مع روسيا تشهد مرة أخرى صراعا يعكس طموحات جيوسياسية”.
مشاركة :