من أجل الشوك نحبُّ الورد

  • 2/9/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

من أجل الشوك نحبُّ الورد رباح آل جعفر ‏كان صفاء الحيدري نموذجاً غريباً من الشعراء لم أصادف مثله في حياتي. ولعلّه أغرب نموذج التقيت به في الحياة، وهو يخفي في داخله إحساساً بالألم، مع الإحساس بالغربة، وكذلك الإحساس بالخيبة!. ‏وبينما كانت الأصداف تلمع تحت أضواء الشهرة، كان صفاء ينام مدفوناً تحت تراب بيته في البتاوين ببغداد. وصفاء لم يتزوج وكان يقول لي: إن الزواج يقتل الشعر، وإن الحبّ يقتله المال، ويعتقد أن نظرات الناس ليس فيها ودّ، ولا صدق.. وأنها نظرات متزلفة، منافقة. ‏والغريب أنه كتب دواوين من أشعار الغزل، لكنه لم يقع في غرام امرأة واحدة في حياته كلها. وكان إذا ضحك يضحك من حنجرته، وإذا جاش في البكاء فإنه يبدو كأنه يرغب في أن يغيب عن الوعي، ثم يجلس طول الليل لا يغمض له جفن ، يدندن في عزلته: يا ليل نجومك شهود على لوعتي.. ويا قمر أنا قتيل شفتيك!. ‏ولمّا كان يائساً من شعره، ساخطاً على زمانه، غارقاً في تعاسته، وقد ضاق صدره بالكلّ، فإنه كان يحطّ من قدر بعضهم، ويسمّي النقاد بـ ”النقاقيد”، واتحاد الأدباء ب “اتحاد الكتباء”.. وكان يقول: هؤلاء الأدباء عندما رأوا رأس الطير الطائر فإنهم خافوا على رؤوسهم!. ‏وفي البداية كان صفاء ميسور الحال، كثير النفقات، ثمّ أصبح يعاني من الإفلاس ومن الشحّة ومن خواء الجيوب، وعلى الرغم من ذلك كان متلافاً إلى حدّ السفه، باذخ الكرم حتى في أشدّ حالاته عسراً.. وكانت جماعة من الأدباء قد هجرت اتحاد الأدباء، وأصبحت تستعين به كلّما دعت الحاجة أن “ترتفع في الجو النشوة، ويتمايل الحضور يمنة ويسرة، ويعمّ السرور، ويندفع الجميع في جو كلّه طرب وحبور”. ‏وكان صفاء يحكي دائماً في الصباح لكلّ من يلقاه عن أدق تفاصيل السهرة، ثمّ عندما مات تفرّقوا من بعده، وأصبح البيت ركناً مهملاً، تكوّم أطلالاً عفا عليه الزمن وجار!. ‏وكان يقول: إنه أشعر من الجن، وإن الشعر يأتيه وهو نائم. يكتب ملحمة شعرية بكاملها وهو نائم فإذا استيقظ من نومه دوّنها على الورق، ويفخر أنه صنع شاعرين كبيرين: حسين مردان وكان صفاء يقرضه المال ويعلم أنه لن يعيد إليه شيئاً مما يستدين، والثاني أخيه الأصغر بلند ، ويتكلّف قليلاً فيزيد، أن بدر شاكر السياب سرق منه قصيدة “زقاق” وقلّده في صورها وأجوائها، وكتب من بعدها “المومس العمياء”!. ‏وكان على اشدّ الخلاف مع أخيه بلند، فقد كان عقدته في الشعر والحياة، ويصفه بأنه “بلا حميميّة”، وعندما يعرض إلى ذكره فإنه ينزف جميع ما في شرايينه وأوردته من الدم، ويقطر ما في روحه من الضياء، وتهطل دموع على خدّه .. وكان يقول لي بغضب همجيّ: إذا غسلت الكلب في المحيطات السبعة سيخرج منها أكثر قذارة!. ‏ولم يكن يستثني من الكلاب إلا كلبه “بلاكي” فقد كان صديق عمره ورفيق عزلته.. ينام معه على سرير واحد، ويأكلان من ماعون واحد، فلمّا مات صفاء مات بلاكي بعده بيوم واحد!. ‏وإذا كانت عين الرضا عن كلّ عيب كليلة.. وحبّك للشيء يعمي ويصمّ عن العيوب.. فلقد أحببت صفاء الحيدري.. وربما من أجل الشوك الذي في الورد، فإننا نحبّ الورد!.

مشاركة :