تتجه الأوضاع في ليبيا إلى العودة نحو المربع الأول من الانقسام، فبينما يمضي مجلس النواب لانتخاب وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيسا مكلفا بتشكيل حكومة جديدة، يرفض رئيس الحكومة الحالية عبدالحميد الدبيبة الاعتراف بذلك، ويعلن استمراره في الحكم إلى حين تنظيم انتخابات قد تأتي وقد لا تأتي، ومن الطبيعي أن يتصرف في ميزانية الدولة بذات الشكل المعتمد في العام 2021، وأن تذهب الأموال هباء منثورا في سياقات لا علاقة لها بالتنمية ولا بحل الأزمات الحقيقية للأغلبية الساحقة المطحونة من الشعب. صادق مجلس النواب على خارطة طريق، من بين بنودها تنظيم الانتخابات في أجل لا يتجاوز 14 شهرا، وهذا يعني أننا أمام ما لا يقل عن عام آخر من الانتظار، مع استمرار النواب في الحصول على امتيازاتهم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجلس الدولة الذي يجد في تحركات البرلمان تبريرا لاستمراره في المشهد، بينما تتحول المماطلة إلى آلية عمل معتمدة لدى مختلف الأطراف في مواجهة المجتمع الدولي الذي كشف عن جهله بطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في ليبيا، أو حتى على إيجاد ثغرة لتحديد طريقة ناجعة للتعامل مع السياسيين الليبيين بمختلف توجهاتهم، والذين قد يختلفون في كل شيء، ولكنهم يجتمعون على مبدأ المماطلة وتحقيق المزيد من المكاسب الفردية والفئوية والقبلية. بعد قرابة عام من توليه رئاسة الحكومة والقيادة الفعلية للسلطة التنفيذية في البلاد، لم يتقدم الدبيبة خطوة واحدة في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية، أو توحيد المؤسسة العسكرية، وكان واضحا أنه لا يريد ذلك، بل اختار أن يفترش بساط الميليشيات ويتغطى بالحضور التركي، ويتغذى من العلاقة المتينة بين الدبيبة وعلي الصلابي في إطار من العمل المشترك الذي يجمع بين تطلعات السياسي ورغبة التاجر في تحقيق الأمان بما يخدم مصالحه التوسعية بأموال ريعية لا رقيب على من يتصرف فيها، كما حدث طيلة سبع سنوات من حكم فائز السراج. خصص الدبيبة أكثر من نصف فترة حكمه، للترويج لمشروعه الشعبي من أجل شراء أصوات لانتخابات رئاسية كان قد قرر الترشح لها رغم أنه تعهد سابقا بألا يخوضها، وعندما سئل عن سبب تراجعه عن تعهده، أجاب أنه كان تعهدا أخلاقيا لا أكثر. ولما فرض قانون انتخاب الرئيس الصادر عن مجلس النواب على أي مترشح أن يكون قد تخلى عن منصبه قبل ثلاثة أشهر من يوم الاقتراع، لم يستجب الدبيبة لذلك الشرط إلا في فترة متأخرة. كان طموحه في البداية تأجيل الانتخابات إلى موعد غير محدد، وعندما لاحظ الإصرار الدولي على تنظيمها في الرابع والعشرين من ديسمبر، نجح في الإطاحة بالقانون عبر الضغط الفعلي على مفوضية الانتخابات، واعتبر أن يوم تقدمه بملف ترشحه كاف ليكون يوم تخليه المؤقت والصوري عن منصبه، وسعى في ذات السياق للضغط من أجل فرض تقدمه قائمة المنافسين على منصب الرئيس مقابل التشكيك في أهلية منافسيه الأساسيين ولاسيما سيف الإسلام القذافي وخليفة حفتر وفتحي باشاغا. كان الدبيبة أحد أبرز أسباب منع تنظيم الانتخابات في موعدها، مع طموحه غير المحدود لاستمرار الوضع على حاله كرئيس للحكومة يتصرف في ثروة طائلة للدولة، بالتوازي مع تزعمه إمبراطورية خاصة للاستثمارات موزعة على عدد من الدول. حاليا، دخل الدبيبة معركة كسر العظم مع مجلس النواب، ومع وزير الداخلية السابق باشاغا، ومع مساعي تشكيل حكومة جديدة تطيح بحكومته، التي يعتبرها صاحبة الشرعية الوحيدة، فيما كل المؤشرات تثبت أن جميع الشرعيات في ليبيا منتهية الصلاحية، وأن كل السلطات التي حكمت البلاد منذ 2011 هي سلطات مسقطة من خلال التدخلات الخارجية، بما في ذلك الحكومة الحالية التي تم فرضها من قبل ستيفاني وليامز كنتاج لانتخابات داخل ملتقى الحوار السياسي الذي تم تشكيله وفق ميولات البعثة الأممية آنذاك، والذي تم التشكيك في ذمم الكثير من أعضائه من خلال شبهات الفساد والرشى التي قام خبراء دوليون بالتحقيق فيها ثم أخفوا نتيجة ما توصلوا إليه من حقائق تلافيا للوقوع تحت طائلة فضيحة مدوية للمجتمع الدولي. يرى الدبيبة أنه نجح في إيقاف الحرب، والحقيقة أن وصوله إلى الحكم هو نتيجة لوقف المعارك وليس العكس. الجميع يدرك دور التوافقات الإقليمية والدولية وكذلك دور اللجنة العسكرية المشتركة التي توصلت إلى إعلان وقف نهائي لإطلاق النار في أكتوبر 2020، في إخراج البلاد من دائرة النزاعات المسلحة. انتخاب باشاغا لتشكيل حكومة جديدة يعني أن على الدبيبة التخلي عن منصبه وتسليم العهدة للقادم من طبرق انتخاب باشاغا لتشكيل حكومة جديدة يعني أن على الدبيبة التخلي عن منصبه وتسليم العهدة للقادم من طبرق وعندما يتحدث الدبيبة عن تحالف بين العسكر والإخوان لاستهدافه، فإنما يهدف إلى خلط الأوراق إقليميا وليس محليا كما يعتقد البعض، رغم أنه أكثر من يدرك أن باشاغا لا يمكن وضعه في خانة الجماعة التي يتحرك منتسبوها على نطاق واسع، سواء في مكتب رئاسة المجلس الرئاسي أو في ديوان رئاسة الحكومة، بل إن العلاقة بين الدبيبة والإخوان ونظام أردوغان تبدو قوية ومتينة لا فصام لها، بينما علاقة الدبيبة مع مصر والإمارات لا تتجاوز علاقة المصالح والبحث عن المساندة، والمحيطون به يعلمون ذلك جيدا، ولديهم معرفة بدور الصلابي في التخطيط لجميع حركاته وسكناته، وعندما دخل معركة كسر العظم مع مجلس النواب، اتجه الدبيبة إلى مجلس الدولة الذي هو بالأساس فضاء إخواني تم تشكيله لإعادة تدوير المؤتمر الوطني السابق، ورئيسه خالد المشري من أهم زعامات حزب العدالة والبناء الذي يمثل الذراع السياسية لجماعة الإخوان الليبية. وفوق كل ذلك، يعلن الدبيبة أن هدفه هو تنظيم انتخابات وفق قاعدة دستورية يطالب بها الإخوان قبل غيرهم، ثم يعلن أنه لن يترشح للسباق الرئاسي في سياق لا يختلف كثيرا عن تعهده السابق الذي تراجع عنه لاحقا بدعوى أنه كان تعهدا أخلاقيا. وعندما يقول الدبيبة إنه حقق نجاحات مهمة، فلا شك أن من أبرزها الدفع بثلاثة من وزراء حكومته إلى السجن الاحتياطي، وهذا وإن كان يحسب لنزاهة القضاء الليبي فإنه يفضح حجم الفساد الذي ينخر الحكومة، ويكفي أن الفساد ضرب حتى خطة التصدي لجائحة كورونا بسرقة الأموال المخصصة لها، وحرم الطلبة من الكتاب المدرسي لأشهر عدة، مع الارتفاع المهول للأسعار بسبب الرفع غير المدروس في الأجور والضخ غير محسوب العواقب للسيولة، والمضاربة القائمة في الأسواق ضمن منظومة فساد وجدت في السلطة القائمة بمختلف تفرعاتها غطاء لها لكي تنتشر. ومهما يكن من أمر، فإن الدبيبة، وإن كان قد وزع الأموال على بعض الشباب لتيسير الزواج في إطار مشروع مثير للجدل، فإنه بالتأكيد عجز عن تحقيق الكثير من المطالب الشعبية الملحة، وأظهر بالأساس أنه رئيس حكومة طرابلس مع تجاهل متعمد لبرقة وفزان، كما أن موقفه من الجيش يمثل أحد أبرز سلبياته. بينما يبدو باشاغا في المقابل شخصية قادرة على فرض مواقفها ورؤاها من خلال وجهة نظر السياسي لا التاجر، والعابر للأقاليم لا الإقليمي، والقادر على التحدي لا الواقف عند رغبة الحلفاء. وعندما يستطيع باشاغا مصافحة حفتر بعد سبع سنوات من الحرب بينهما فهذا يعني أنه يمكن أن يمهد الطريق إلى السلام الحقيقي. انتخاب باشاغا لتشكيل حكومة جديدة يعني أن على الدبيبة التخلي عن منصبه وتسليم العهدة للقادم من طبرق بتصويت النواب، وفي حالة رفضه ذلك، فإن الأمر قد يتحول إلى مواجهة بين طرفين ينتميان إلى نفس المدينة وهي مصراتة، ولكن لا أحد يرغب في استمرارها طويلا، لأن لا أحد سيقبل بوجود حكومتين واحدة في طرابلس وثانية في سرت، ولا أحد يقبل حربا أهلية جديدة فقط لأن الدبيبة يرغب في مواصلة البقاء بمكتبه.
مشاركة :