عندما يُعانق جموح العقل دفء القلب، ويمتزج نُضج الفكر برقة المشاعر، وتجتمع أناقة الكلمة برشاقة المضمون، تولد نصوصٌ كتبتها ريشة الأحلام بحبر دموع الواقع على صفحاتٍ يشعر القارئ أنها بتلات زهورٍ كبيرة اختارت أن تجتمع لتكون كتابًا يهمس مضمونه في روح القارئ برهافة، ليستحق عنوانه الشاعري «دَلاليَّات» لمؤلفته البحرينية الشابة «دلال عبدلله يوسف». يُبحر القارئ بين ثمانٍ وعشرين نصٍ يُحاور الفكر ويُدغدغ المشاعِر، حيث تجتمع التساؤلات على طاولة التأمل في مُحاولة للوصول إلى إجابة ومعنى لبعض مواقف الحياة التي يحتاج فيها الإنسان إلى مبدأ. البساطة والوضوح سيَّدا مضمون كل نص حيث لا مكان للغموض أو الإبهام والتعقيد، ما يجعل الكتابُ مُشرعًا أبوابه ترحيبًا بمُختلف مُستويات القرَّاء دون نخبويَّة أو استثناء. يبدأ الكتاب بهطول الحزنُ شفافًا من نص «أرواح غادرتنا إلى السماء» مُحلقًا في ذكرى الوفاء لمن غادرونا إلى الحياةُ العُليا، ويُختتم برسالة وِجدانية من المؤلفة لروح والدها الفقيد بعنوان «ظلام روح»، وبينهما تتنوع مضامين النصوص وتساؤلاتها والهموم التي تُناقشها، بدءًا ببعض تفاصيل العلاقات الإنسانية، مرورًا بمشاعر الإخلاص للوطن، وتسليط الضوء على محطات تاريخية إنسانية ومُشكلات مُجتمعية وثقافية، وصولاً إلى التعبير عن بعض مشاعر الأنثى وجوانب من علاقتها النفسية الخفيَّة بالمحبوب. يتنقل الكتاب بالقارئ من مرفأ أفكارٍ إلى آخر؛ إذ يوصينا نص «العلاقات الضوضائية» باختيار سلامنا الروحي والنأي بأنفسنا عن الصراعات وما يكتنفها من تعقيدات، يليه «اللصوص الفكرية والمتسول الثقافي في زنزانة واحدة» فاضحًا من يرتدون أقنعة ثقافة لا يملكونها، ويستمر فضح الأقلام المُزيفة ومُتصنعي التأليف من الدخلاء على عالم الكتابة دون موهبة أو مهارة أو ثروة أدبية وثقافية تستحق المُشاركة مع القارئ بين سطور «أزمة الإفلاس الثقافي» و«مشروع الكاتب العظيم» و«تكدُّسات»، وعن تسمم الجسد المجتمع الثقافي بسرَّاق الكلمة ومُختلسي تدوينات الآخرين وضرورة مُحاسبة لصوص الفِكر والإبداع وإيقافهم عند حدودهم يتحدث نص «مدوِّن بلا هويَّة»، ثم يكشف نص «الذين لا يعرفون الله» ذوي القلوب المُتحجرة ممن لا يخشون غضب رب المظلومين وحسابه، بينما نرى في «غيرتها والغضب» كبرياء الأنثى الشاعرة حين يصوغ دمعها أحزانها الناجمة عن غيرتها على المحبوب وتنصبُّ شعرًا على الورق، ليأتي نص «السمكة خارج الماء» من جهة أخرى مؤكدًا أن الحُب هو أكسجين الروح الأنثوية الرقيقة، ولم تُغفل المؤلفة النظر بعينٍ ناقدة لبعض المشكلات التي يُعانيها الموظف من تجمد البيئة الإدارية في خاطرة «نسمات وظيفية»، ليأتي بعدها دور المواقف التي تُرتب أماكن الأشخاص في قلب الإنسان بين سطور «قلوبنا ليست فارغة»، ويتجلَّى تضامن المشاعر مع الإسلام في نص «عُذرًا.. سنُصلي من أجل المُسلمين دائمًا وأبدًا»، ثم يلمس وجدان القارئ جانبًا من التضاريس النفسية المُعقدة لفئة من البشر في نص «من هُم مشوهو النوايا؟»، ليعود بعدها للتحليق في سماوات المشاعر المُرهفة ويرى كيف تجمع المرأة المُحِبة بين عنفوان الأنوثة الرقيقة في تغافلها مع المحبوب وكبرياء عزة النفس كي تقي قلبها من الوقوع في هاوية الانكسار في نص «أنتِ والحُب!»، ومن أحلام القلب إلى صحوة العقل في خاطِرة «الثقافة التاريخية في خطر» مُسلطًا الضوء على فضائح الفترة التاريخية التي نعيشها بسبب الانقلاب الفكري والغزو الثقافي، ويُخبرنا «صلاة القلب» بأهمية أن يكون دعاء القلب النقي الصادق للآخرين أولوية كي لا يكون رياء لسان غير قابل للتصديق، ثم يُذكرنا كل من نص «الانتماء وريد الهوية الوطنية» ونص «الثقافة الوطنية» أن عشق الإنسان لتُراب وطنه أكبر من أي ظروف سلبية قد يجتازها هذا الوطن، ومن المشاعر الوطنية إلى المشاعر الشخصية في نص «بالأحمر العريض.. لن أحتفل بعيد الحُب!» حين تُعلن الكاتبة عن عدم الإيمان بالطقوس المُستهلكة لمُناسبة «عيد الحُب» السنوية لاعتقادها أن الحُب عيدٌ في كل لحظة بقرب الحبيب وليسَ يومًا واحدًا خلال العام، أما نص «كاريزما الروح» فيفضح حقيقة من يستهدفون الآخرين بقُبح سلوكياتهم ويوقفهم أمام مرآة نظرتهم الداخلية السيئة لذواتهم قبل أن تنعكس في صورة مُحاربة للناجحين، ومثلهم المرضى بالحقد على المُتميزين ومن يستهدفونهم بأسلحة العداوة في كل من نص «الحقد استثمارٌ فاشِل» ونص «الفاشلون في حربٍ خاسِرة»، ومن نص «على أوتار المِحَن» نعرف كيف يضع الإنسان نقاط وعيه على حروف علاقاته الإنسانية، فيقترب ممن يختارون قربه ويسعد بالابتعاد عن أولئك الذين يجدون راحتهم في الابتعاد عنه، أما نص «غادر محطتك فورًا.. لا تنتظر» فيُشير لأهمية الاستغناء عن الدروب التي تستنزف العُمر والآمال دون أن تقود إلى مكان، وضرورة مُغادرتها إلى نُقطة انطلاقٍ أكثر جدوى، ومن وحي عالم التواصل الاجتماعي الإلكتروني الحديث جاء نص «ملائكة التواصُل الاجتماعي» فاضحًا جُبناء مواقع التواصُل الاجتماعي خلف غموض الشاشة والأسماء المُستعارة التي يتنكرون بها لإطلاق شتائم وألفاظ «لا تُعبِّر سوى عن هشاشةِ أخلاقهم صــ 88»، يليه نص «واقع المُجاملات» مُتحدثًا عن بعض المُجاملات الإلكترونية التي قد تُفسد العلاقات الواقعية بالآخرين. كتابٌ يُمثِّل وجبةٌ فكرية خفيفة صالحةٌ لمُختلف الأعمار، يسهل على العقل هضمها، وتستطيب الروح مذاقاتها المُتنوعة، ولا يستغرق القارئ وقتًا طويلاً في تناولها مُتنقلاً بيُسرٍ وسلاسة بين نصٍ وآخر.
مشاركة :