في كتابه المهم الصادر في سنة 2008 تحت عنوان «الطريقة التي سنكون عليها»، اعتمد أخي جون زغبي على نتائج استطلاع الرأي التي أجريناها على مدى عقود الاقتراع لمراقبة وتعريف القيم ووجهات النظر العالمية الفريدة لأترابنا من الأمريكيين. اعتبر أخي في كتابه المذكور آنفا أن التجارب الحياتية التي مر بها هؤلاء والتي يشتركون فيها مع المعاصرين لهم من أبناء جيلهم، والمتمثلة على وجه الخصوص في تحديد تلك الأحداث واللحظات المؤلمة، قد شكلت وجهات نظرهم وصهرت قيمهم وشعورهم بما يمكن القيام به. لقد تشكل الجيل الذي تنتمي إليه والدتي، على سبيل المثال، في خضم الحربين العالميتين الأولى والثانية وحالة الكساد العظيم. في خضم تلك الظروف العصيبة من المشقة والضياع، كانوا يكابدون في الحياة ويدخرون لتحقيق الأمن والاستقرار لأنفسهم ولذريتهم. لقد غذَّت تلك التضحيات الجسيمة المشتركة التي بذلت في خضم تلك الحروب الكبرى مشاعر الحماسة الوطنية، والإيمان بالحكومة كعامل تغيير بنّاء، والالتزام بالخدمة الوطنية. عاش جيلي خلال الحرب الباردة و«الذعر الأحمر». لقد كنا نختبئ تحت طاولاتنا في مدرستنا أثناء التمارين المنتظمة التي كنا نتدرب خلالها على كيفية التصرف خلال الهجمات النووية غير أن ذلك الاختباء لم يوفر لنا أي حماية، بل إنه زرع فينا الخوف من «القنبلة» والشيوعيين الذين قيل لنا أنهم قد يهاجموننا. بعد ذلك جاءت حرب فيتنام وعمليات التجنيد لتجبر الملايين من الشباب على خوض حرب لا يمكن الانتصار فيها. أدت الحركة المناهضة للحرب إلى زرع الانقسامات في الأمة وحطمت فكرة «الوطنية» التي انبثقت عن الحرب الباردة. في الوقت نفسه، كانت حركة الحقوق المدنية تتنامى ويزداد زخمها. لم تنجح تلك الحركة التاريخية في التقدم في المعركة من أجل تكريس حقوق السود الأمريكيين فحسب، بل إنها ولدت أيضا وعيًا متزايدًا بالظلم العنصري. لابد أن أذكر أيضا في خضم الحديث عن هذه الأحداث الجسيمة أن الجيل الذي أنتمي إليه قد اهتز بسبب الاغتيالات التي طالت الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وشقيقه روبرت كنيدي والزعيم مارتن لوثر كينج، بالإضافة إلى السقوط المدوي للرئيس ريتشارد نيكسون. خلَّفت تلك الأحداث الجسيمة صدمة جماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وأثرت في نهاية المطاف في الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة التي سيطرت على جيل كامل. بلغ أطفالي سن الرشد خلال فترة بدأت بهدوء نسبي، حيث انتهت الحرب الباردة وسط نشوة الإحساس بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى الوحيدة المنتصرة. كانت هناك مشاكل بكل تأكيد. أصبحت السياسات الحزبية مريرة كما تفاقمت الفوارق الاقتصادية واستمرت حالة الغليان الناجمة عن المظالم العنصرية. بالمقابل، ورغم تلك المشاكل، فقد عاش الكثيرون طيلة قرابة عقد ونصف من الزمن، في فترة يحدوهم خلالها شعور متجدد من الوعود والأمل. ذلك الهدوء مزقته هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية وما أعقبها من خوف وهستيريا وطنية. لقد تسببت الحروب في أفغانستان والعراق في خسائر فادحة في الأرواح ودِيست البراءة وضربت مكانة الولايات المتحدة الأمريكية. في محاولة لإعادة بث روح الحماسة التي عززت الوحدة الوطنية خلال الحروب الكبرى والحرب الباردة، جعلت إدارة بوش من تنظيم القاعدة وصدام حسين وإيران تهديدات وجودية. مع استمرار الحروب، أصبح من الواضح أننا لم نعد القوة العظمى الوحيدة كما تفاقمت الانقسامات وتعمقت. تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية إلى حالة من الكساد الكبير ما بين عامي 2008 و2009. في غضون بضعة أشهر فقط، تضاعفت أرقام البطالة، وفقد الكثيرون مدخرات حياتهم، وعجز واحد من كل خمسة من أصحاب المنازل عن تسديد رهوناتهم. في خلق تلك الهواجس والمخاوف الوطنية، انتخب باراك أوباما رئيسًا برسالة أمل وتغيير. ما لبثنا أن رأينا انطلاق حملة مثيرة للانقسام، تضمنت مواضيع خفية وأخرى ظاهرة تزرع الكراهية العنصرية ومعاداة «الآخر»، ما أفسح المجال لاستقطاب حزبي أعمق، وكراهية الأجانب، وتراجع ثقة الجمهور في المؤسسات التي كانت تحظى بالاحترام، ليتم في نهاية المطاف انتخاب دونالد ترامب. بعد أن استعرضنا كل هذه التطورات التي طغت على العقود والسنوات الماضية، يحق للمرء اليوم أن يتساءل عن اللحظات والأحداث التي ستشكل و/ أو تثخن حياة أحفادنا. تبجح زميل حفيدتي في الفصل مؤخرًا وقال متفاخرا أنه خلال تدريب إطلاق نار نشط «قام بتأمين أفضل مكان للاختباء» - حيث لن يستطيع أي مسلح أن يعثر عليه أبدا. يتقبل الأطفال الآن مثل هذه التدريبات على أنها روتينية، ولماذا لا يفعلون ذلك - مع إطلاق نار جماعي يحدث يوميا تقريبًا وبمعدل إطلاق نار في مدرستين كل شهر. أضف إلى ذلك، حالة الانقسام العرقي العميقة، والحركات الجماهيرية التي اندلعت ردا على أعمال الشرطة الوحشية وأعمال العنف. تفشت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) فتعطلت الحياة الطبيعية خلال العامين الماضيين ووجد الأطفال من مختلف مراحل النمو العمرية أنفسهم محرومين من التفاعل الاجتماعي المطلوب - ناهيك عن تأثيره في تعلمهم. لا ننسى أيضا تنامي حالة الغضب الحزبي، وتأجيج مشاعر كراهية «الآخرين»، ناهيك عن تداعيات حقبة رئاسة ترامب والآثار المترتبة على ثقافتنا السياسية والاجتماعية. هذه التطورات التي تشكل العصر سيكون لها تأثير بعيد المدى في الجيل الذي سيبلغ سن الرشد في العقد الثالث من هذا القرن الجديد. سنرى كيف ستسير الأمور وما إذا كان من الممكن، في هذا السياق، استعادة ذلك الشعور بالهدف المشترك والوحدة الوطنية. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :