أوقاف «الله يرزقنا الجنة» رغم الفقر والجوع!

  • 12/7/2013
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اعتاد "أبو علي" أن يجلس في المسجد بعد أداء صلاة العصر بجامع القرية، يستمع إلى الإمام وهو يقرأ الدرس اليومي على مسامع المصلين الذين يتخذون مجالسهم في أرجاء المسجد، ويشد انتباهه وهو يتكئ على أحد أعمدة المسجد الطيني، مرهفاً سمعه لهذا الدرس الذي يحرص على استماعه يومياً -كعادة كبار السن-.. كان "أبو علي" يتابع حديث الإمام عن الوقف في الإسلام، وأهميته، وعظيم أجره، حيث يشرح للمصلين بالأدلة فضله، وفوائده على الأحياء والأموات، وطرق تطبيقه.. وبعد أن ينتهي الحديث يجلس برهة في مجلسه يذكر الله ويسبحه، ويقلب في رأسه حديث الإمام ويسترجعه، متمنياً أن يحقق شيئاً من ذلك، ثم ينهض ولا يزال الحديث يجلجل في أذنيه، فيعقد العزم على أن يوقف شيئاً لله ينفعه في آخرته وبعد انقطاع عمله في الدنيا بانتهاء أجله. يستعرض "أبو علي" في مخيلته ماذا يمكن أن يقدم مما يملك ويصلح لأن يوقفه، فلا يجد إلاّ نخيلات في حائطه، والتي يعتني بها طوال العام هو وأولاده، فتعود عليه بكمية وافرة من التمر، يأكل بعضه ويدخر بعضه الآخر لتقلبات الزمان، وأحداثه الجسام التي لا يكاد يسلم منها أحد، لكن يعقد عزمه ويتوكل على الله، وفور دخوله منزله يخبر زوجته بما عقد العزم عليه، فتوافقه الرأي على ذلك وتعينه عليه، وبعد أن يستريح في بيته قليلاً يتجه إلى إمام المسجد وشيخ القرية ليخبره بما عقد العزم عليه من أمر الوقف، ويمر في طريقه بجاره لكي يحضر كتابة الوقف ويشهده على ذلك. أصل الوقف يُعرّف الوقف بأنه مصدر وقّفت الشيء وقفًا، ويطلق على الحبس والمنع، ويقال: "وقَّف فلانًا عن الشيء"، أي منعه، ويقال: "وقَّف الدار" إذا حبسها في سبيل الله، ولعل حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب حينما أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، وقال "ابن حجر": "حديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف".. إذاً فالوقف ثابت في الكتاب والسنة، ويشترط لصحته أن يكون في عين معلومة يُنتَفع بها مع بقاء عينها، وأن يكون على بِر، وأن يقف على معين من جهة، كمسجد كذا أو شخص كزيد مثلا، وأن يكون الوقف مؤبداً مُنَجَّزاً غير مؤقت، ولا معلَّق إلاّ إذا علَّقه بموته، وأن يكون الواقف ممن يصح تصرفه، فإذا اجتمعت هذه الأمور صح الوقف وعمل به وإلاّ فلا. الثلث كثير عندما يريد الانسان أن يوقف شيئاً في حياته فإنه له مطلق التصرف والحرية في ماله، بحيث يستطيع أن يوقف ما شاء من بيوت ومزارع وأموال على أوجه الخير، أما إذا كان سيوصي بعد مماته فإنّ الشرع لا يجيز له سوى التصرف في ثلث تركته فقط، ولو زاد فلا تطبق وصيته بل يكتفى بالثلث، ولذلك يعمد الموصون بالوقف إلى أن لا يتجاوز ما يوصون به من أوقاف الثلث، وذلك امتثالاً للشريعة الإسلامية، وحتى يجد ورثتهم ما يكفيهم بعد موتهم. الكتابة والتوثيق لم يكن هناك في الماضي حجج استحكام للبيوت والعقارات تصدر من المحاكم الشرعية؛ لأنّه لم يكن في بدايات مراحل التأسيس محاكم، فقد كان الأمر بسيطاً حيث يتولى الناس بأنفسهم توثيق بيوعهم وحجج استحكام أملاكهم من البيوت والمزارع، من خلال الكتابة عند أهل الثقة والضبط والصلاح، ففي كل بلدة وقرية ينبغ عدد من طلاب العلم الذين يتعلمون في الكتاتيب ويحفظون القرآن الكريم، ومن ثم ينكبون على العلم الشرعي، ويتخرجون على أيدي العلماء في بلدهم أو في البلاد التي يشتهر بها العلماء، ومن ثم توكل إلى هؤلاء مهمة إمامة جامع البلدة أو القرية والجلوس للتدريس، ويطلق عليه الناس في تلك الفترة "المطوع"، حيث يكون بمثابة قاضي البلد. ويكون "المطوع" من أهل الحل والعقد ويتبوأ مكانته في البلدة بعد الأمير فيكون المقدم في كل شيء، فيرجع الناس إليه لفض خصوماتهم، كالاختلاف على الإرث أو المشاجرات أو التعديات على الأملاك وغيرها من الخلافات، ومن المهام التي توكل إليه أيضاً: كتابة حجج الاستحكام على منازلهم، ومزارعهم، وتوثيق البيوع، والعقود، والرهن، وربما تعدى الأمر ذلك إلى كتابة خطابات ورسائل لأهاليهم المغتربين، ويحصل على أجره مما يدفعه إليه أولياء أمور الطلاب الذين يتولى تدريسهم، ومما يوقفه أهل البر من أوقاف يكون ريعها لإمام جامع البلدة ومؤذنها، ويمتاز هؤلاء بدقة التعبير عند الكتابة وانتقاء الألفاظ الجامعة، التي لا تحتمل التأويل، إضافةً إلى الخط الجميل المقروء من الجميع، وكحماية لكتاباتهم من التزوير يتخذ معظم هؤلاء الكتاب أختاماً خاصة بهم، يحملونها معهم أينما حلوا، حيث يختمون بها كتاباتهم كتمييز لها وحماية لها من التزوير. نموذج كتابة وقف إذا أراد من سيوقف شيئاً من ممتلكاته توثيق ذلك فإنه يتجه الى "مطوع القرية" الذي يتبرع بكتابة الوقف من دون مقابل؛ إبتغاءً للأجر من الله تعالى، ويكون عالماً بأحكامه، حيث يحضر شخصاً يسمع ما يكتب ويكون عاقلاً ليشهد بما سمع، فيسأل الكاتب "المطوع" صاحب العقار أو المال الذي يريد أن يوقفه: هل لك بينة عليه؟، فيحضر وثيقة التملك أو شاهدين على ذلك، وتبين حدوده وأطواله إن كان مزرعة أو منزل أو أرض زراعية، أو وصف وعدد دقيق إن كان نخيلاً، وبعد ذلك يخرج ورقة و"دواة" حبر وقلم من الخشب، يبريه بآلة حادة حتى يكون دقيقاً ويمكن الكتابة به، ثم يغمسه في "دواة" الحبر الأسود، ويكتب ما يمليه عليه الواقف، ويرشده إلى بعض العبارات الجامعة والمانعة، ويبين الملك بدقة، كموقعه، ووصفه، وإلى أي جهة سيوقفه، ومن ثم يذيل الخطاب بالصلاة على النبي، ويذكر بأنّه كتبه فلان، وشهد عليه فلان وفلان، وتم الفراغ من كتابته في يوم ويسمي اليوم والشهر والسنة ثم يختمه بخاتمه. وكمثال على ذلك فان وصية الموقفين تبدأ عادة بهذا الكلام: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فهذا ما أوصى به فلان بن فلان بعد شهادة أن لا اله الا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور، ثم يسمي العين المراد وقفها، وموقعها، ووصفها، ويبين مصارف الوقف فيها بالتفصيل، وبعد ذلك يذكر اسم الموصي الممليي للوصية، ويذكر اسم الكاتب، فيقال: وشهد به كاتبه فلان ويذكر اسم الشهود، ويذيل الوصية بتاريخ الكتابة، ويضع خاتمه بجانب التاريخ. المرأة والوقف لم تكن عملية الوقف مقتصرة على الرجال فقط، بل كانت النساء تشارك في ذلك، فالنساء شقائق الرجال كما قيل، وهن كغيرهن يبحثن عن الأجر والثواب من الله على أعمال الخير، خاصةً التي لا ينقطع أجرها إلى يوم القيامة، وكمثال على ذلك نورد وصية امرأة أوقفت عقارها على أعمال البر منذ مئة عام تقريباً، ونص الوصية كالتالي: "يعلم من يراه بأن مضاوي بنت ابراهيم بن سويد أشهدتني بأنّها أوقفت ما هو ملكها، وتحت تصرفها، وهو نصيبها الآيل إليها بالإرث في العقار المسمى بحوطة آل سويد الشاربة من البطيحا، في بلد وثيثية، على إمام مسجد وثيثية وصوامه أنصاف، للامام نصف، وللصوام نصف، ونصيبها المذكور سهم من ثمانية أسهم ونصف، قال ذلك ممليه عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، وكتبه من املائه حمد بن مزيد، وصلى الله على محمد.. التاريخ 1337 ه"، وبجانب التاريخ ختم الكاتب. نقل الوثيقة ومما يحرص عليه الناس في توثيق أوقافهم حفظ الوصية المكتوبة في مكان حصين لا تصل إليه أيدي العابثين، ومع تقادم الزمن تصبح الوصية المكتوبة في ورقة قديمة عرضة للتلف أو الضياع، فينفذ الموكل الوصية بالذهاب الى أحد العارفين بالكتابة من أهل التقوى والصلاح، ويطلب منه نقل الوصية، وبعد أن ينقلها وينسخ كل كلماتها في ورقة جديدة يذكر فيها تاريخ كتابتها القديم، ومن ثم يذيل كتابته بعبارة: نقله من خط فلان ويسمي اسم الكاتب الأول الأصلي، بعد معرفته يقيناً حرفاً بحرف دون زيادة أو نقصان خشية التلف، ويكتب اسمه وتاريخ الكتابة الجديد باليوم والشهر والعام. انتهاء الوقف قد ينتهي الوقف بانتهاء أجله كمن يوقف نخيل على شيء من أعمال البر، فبعد أن تموت وتندثر فإن الوقف ينتهي انتهاء العين الموقفة، وقد يفقد الوقف قيمته مع تقادم الزمن فلا يستفاد منه أو يقل دخله جداً، فيتوجب على الناظر عليه نقله من مكانه إلى مكان آخر، وذلك ببيعه وشراء آخر بدله في مكان يجعل الوقف يدر دخلاً أكثر ليتحقق الإفادة منه، وقد يتولى قضاة المحاكم النظر في عدد من الأوقاف؛ لحمايتها والتصرف بالأوقاف بما فيه المصلحة للموقف وللمستفيدين. مصارف الوقف نظراً للحالة المادية المتردية التي كانت تعيشها البلاد قبل توحيد المملكة فقد كانت الأوقاف بسيطة وقليلة الثمن بمقارنتها بيومنا الحالي -ماعدا المدينتين المقدستين-، لكنها كانت في ذلك الوقت تعني الشيء الكثير وعلى الرغم من أنّها كانت عدة "أصواع" من البر أو الشعير أو عدة "وزنات" من التمر أو "ودك"، إلاّ أنّها كانت تقيم أود كثير من الناس، وتسد رمق جوعهم كإمام المسجد أو المؤذن أو "الصوام" أو الفقراء والمساكين وابن السبيل. وبنظرة عامة لمصارف الوقف فإن معظمها كان وصايا لذبح أضحية عن الميت، بينما يذهب البعض الآخر إلى إمام المسجد والمؤذن وسراج المسجد أو "المسقاة"، إضافةً إلى شراء أكفان للموتى، ولكن مع تحسن الحالة الاقتصادية، وانتعاش موارد البلاد التي انعكست بدورها على زيادة دخل الفرد، فقد عرف الناس أوقافاً جديدة صارت تصرف على بناء وعمارة المساجد، وبناء مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، والصرف على حلق التحفيظ، ولا زال النصيب الأكبر يصرف على ذلك، وهي من خير ما تصرف فيه تلك الأوقاف، وإن كان الواقع الذي نعشه اليوم يستدعي التثقيف لتنويع صرف تلك الأوقاف في أمور بر أخرى لا تقل في الأجر، مثل: إنشاء المستشفيات، والمراكز الصحية، ومراكز غسيل الكلى لأصحاب الفشل الكلوي، ومراكز طبية لأصحاب الأمراض المزمنة، ومراكز التأهيل الطبي، وذوي الاحتياجات الخاصة، وغيرها من المستلزمات التي تخدم أكبر شريحة من المجتمع والمحتاجين. بداية الأوقاف عرفت بلادنا الأوقاف منذ زمن بعيد ومنذ ظهور الاسلام، حيث حظيت المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة بنصيب وافر من تلك الأوقاف، التي لا تزال موجودة منذ مئات السنين، ولأهمية تلك الأوقاف في هاتين المدينتين المقدستين وغيرهما من مدن وقرى المملكة، فقد أولت الدولة -رعاها الله- منذ تأسيسها هذه الأوقاف جل عنايتها واهتمامها، فأسندت هذا العمل الجليل إلى وزارة الحج والأوقاف -سابقاً- وزارة الشؤون الاسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد -حالياً-، وتم تنظيم تلك الأوقاف واستثمارها فيما يعود على الموقفين بالأجر الكبير على المستفيدين من خير عميم. وقد رصدت الوزارة مكافآت مالية مجزية لمن يدل على وقف مجهول انمحى أثره مع الزمن، حيث رصدت لكل من يبلغ عن وقف مجهول مكافأة بمقدار خمسة بالمائة من قيمته، ودعت الجميع إلى التجاوب مع هذا النداء الذي وجهته للمواطنين بضرورة الإبلاغ عن الأوقاف المجهولة والمعتدى عليها عبر أقرب إدارة للأوقاف تابعة للوزارة، وبالفعل، فقد تم التبليغ عن عدد من العقارات المجهولة ومعظمها في مكة المكرمة، وتم صرف مكافآت مالية كبيرة وبالملايين من الريالات. أضخم وقف وتزخر مملكتنا بالعديد من الأوقاف قديماً حديثاً، وفي عصرنا الحالي زادت الأوقاف الضخمة بشكل ملحوظ لتشمل عمارات سكنية وأسواق تجارية تدر دخلاً عالياً، وتصرف عائداتها على أوجه البر المختلفة، ويعد وقف الملك عبدالعزيز للحرمين الشريفين الذي أمر بتنفيذه الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود من أكبر وأبرز المشروعات التي نفذت في مكة المكرمة، بل ويعد أحد أضخم المشروعات المعمارية في العالم، حيث تبلغ مساحة البناء (1.500.000) متر مربع، ويتكون من سبعة أبراج متجاورة، وروعي في تنفيذ المشروع الطابع المعماري الإسلامي، ويصل ارتفاع البرج الرئيس فيه إلى (600) متر، وتبلغ الطاقة الاستيعابية له (65.000) نسمة، ويشتمل المشروع على مسجد يتسع ل(3300) مصل، ويشتمل المشروع كذلك على مواقف للسيارات تتسع لأكثر من (1000) مركبة مرتبطة بالأنفاق الأرضية تحت المبنى وذلك لتأمين حركة القادمين والمغادرين من النزلاء، موزعة على أربعة طوابق، كما يشتمل على خزانات مياه تزيد طاقتها الاستيعابية عن (53.000) متر مكعب لضمان توفير المياه خصوصًا في أوقات الذروة، إضافة إلى الاحتياجات الإضافية اللازمة لشبكة مكافحة الحريق التي يجب أن تكون متوفرة على مدار الساعة.

مشاركة :