كان الشبان الذين استأجروا ذلك المنزل في حي بوبيني قبل شن هجمات باريس مهذبين وحسني الملبس. وقالوا إنهم قدموا إلى المدينة لغرض العمل. ودفع هؤلاء الشبان مائة يورو في الليلة مقابل استئجار المنزل القرميدي المؤلف من طابقين في الضاحية الباريسية التي يسكنها أبناء الطبقة الوسطى. وعندما وصلوا، قدم أحدهم لمالك المنزل، الذي كان يعيش في الشارع الهادئ نفسه بطاقة هويته التي تحمل اسم: إبراهيم عبد السلام. وبعد ثلاثة أيام، كان عبد السلام يرقد محتضرًا على أرضية أحد مطاعم باريس، بينما تظهر من تحت قميصه لفة من الأسلاك متعددة الألوان، بعد لحظات من تفجيره حزامه الانتحاري. ويعرف عبد السلام الآن بأنه واحد من مرتكبي أسوأ هجمات تشهدها الأراضي الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية، في اعتداء يكشف عن قدرة «داعش» على ضرب قلب أوروبا. وما زال المحققون يجمعون أطراف القصة ليقفوا على الكيفية التي تمكن بها 9 شبان على الأقل، يعتقد أن غالبيتهم من حاملي الجنسيتين الفرنسية والبلجيكية الذين تبنوا الفكر المتشدد داخل أوروبا، من رحلة التسكع إلى قلب «داعش» قبل التخطيط لهجومهم وتمويله وتجهيز أنفسهم بالمتفجرات والبنادق الآلية، وتوفير المنازل الآمنة وشن الهجمات المنسقة التي قتلت 130 شخصًا وأصابت أكثر من 350 آخرين في باريس. ولا تعرف بعد السلطات الأوروبية، التي تراجع حسابات إلكترونية ومصرفية وتستجوب عشرات الأشخاص الذين اعتقلوا في مداهمات خلال الأسبوع الماضي، المدة التي استغرقها الرجال، الذي يعرف عن كثيرين منهم سفرهم إلى سوريا لقتال «داعش»، في الإعداد للهجوم. لكن المعلومات المستقاة حول الأيام التي سبقت 13 نوفمبر (تشرين الثاني) توفر قرائن وأدلة حول كيفية تدبير هؤلاء الرجال بعناية لهجوم منسق يقول مسؤولون أوروبيون وأميركيون إنه يشي بتدريب وربما إشراف وتوجيه من عملاء «داعش» في قاعدتهم بسوريا والعراق. ويقول رئيس المركز الأوروبي للاستخبارات الاستراتيجية والأمن، كلود مونيكي، وهو مسؤول سابق في الاستخبارات الفرنسية: «في مثل هذه الهجمات، التي يشارك فيها أناس كثيرون، لا بد أن الأمر صدر عن أعلى المستويات». إن قادة العمليات العسكرية في «داعش» والذين يضمون مسؤولين عسكريين سابقين في العراق، «ما كانوا ليسمحوا قط بأن توجه شخصية أدنى منهم عملية استراتيجية». وقد تتبدى جذور تلك الهجمات، التي طالت أكبر استاد في فرنسا وقاعة موسيقية مكتظة بالحاضرين وسلسلة من المطاعم والمقاهي، في المسار الذي طرقه هؤلاء المشتبه بهم نحو تبني الفكر الراديكالي. وبينما تتباين قصصهم، أحدهم كان طالبًا، والآخر سائق حافلة، وآخر صاحب حانة - كثيرون منهم ينحدرون من أسر مسلمة ليست أصولية أو متشددة. لكن هذا التحول إلى الفكر الراديكالي جر على مدار السنوات أو حتى الشهور القليلة الماضية. وفي قلب المؤامرة تظهر شخصية عبد الحميد أباعود، بلجيكي من أصول مغربية يبلغ من العمر 28 عامًا. وبينما لم يكن أباعود من بين الرجال الذين عرفت هوياتهم من البداية في هجمات 13 نوفمبر، يقول مسؤولون إنه أرفع عضو في الخلية، ربما جرى تكليفه من قبل زعماء «داعش» لتنسيق الهجمات. وتقول الشرطة إن أباعود استخدم إحدى البنادق الآلية الثلاثة التي عثر عليها في سيارة مهجورة عقب الهجوم، فيما يشير إلى أنه ربما ساعد في تخطيط وتنفيذ أعمال العنف. ولقي حتفه يوم الأربعاء الماضي أثناء مداهمة شرطية لإحدى الشقق في حي سان دوني، خارج العاصمة الفرنسية باريس، حيث كان يختبئ آخرون تردد أنهم كانوا يتآمرون لشن هجوم آخر. أباعود، الذي أصبح شخصية شهيرة في الدعاية الداعشية حتى من قبل هجمات باريس، تربطه علاقات ببعض من المهاجمين الآخرين، بمن فيهم عبد السلام. لقد قضى أباعود بعض الوقت في أحد السجون البلجيكية مع صلاح، شقيق عبد السلام، والذي ما زال هاربًا من الملاحقة. لقد كان أباعود أحد سكان مولينيك، وهو حي فقير في العاصمة البلجيكية بروكسل والذي يعرف بأنه أرض خصبة للتطرف. وبحسب المسؤولين البلجيكيين، قدم 48 من أصل 141 من سكان بروكسل معروف ذهابهم إلى سوريا للقتال عامي 2013 و2014 من مولينيك. ويقول منتصر الذمي، وهو باحث في شؤون التطرف الإسلامي ويدير مركزًا يهدف لإثناء الشبان المسلمين البلجيكيين عن الذهاب إلى سوريا: «كل هؤلاء الشبان يعرفون بعضهم البعض، وعندما يفكر أحدهم في الذهاب إلى سوريا، يفكر الآخرون مثلهم في السفر إليها». ويضيف: «في غضون سنوات قليلة، عاد هؤلاء الشبان الذين لم يكونوا يدرون كيف يصلون، وخلال عام أو عامين أو ثلاثة أصبحوا أكثر الأشخاص المطلوبين في بلجيكا». ويقال إن أباعود ذهب أولاً إلى سوريا في عام 2013؛ إذ انضم إلى «داعش» هناك، ولا يعرف المسؤولون الفرنسيون بعد متى أو كيف عاد إلى أوروبا قبل الهجمات. وفي أغسطس (آب) من هذا العام، أبلغ أحد أنصار «داعش» الذي اعتقل عند عودته إلى فرنسا قادمًا من سوريا، السلطات الفرنسية بأن أباعود أمره، في سوريا بضرب مواقع مزدحمة بالناس. وقال الرجل ويدعى رضا حامي إنه كلف بأهداف متعددة في فرنسا، من بينها «قاعات موسيقية» و«أسواق غذائية». وشأنهم شأن أباعود، كان معظم المهاجمين المشتبه بهم معروفين للسلطات الأوروبية، بعضهم للاشتباه بدعمه للمتشددين، وآخرون في جرائم عادية. واعتقل أحدهم، ويدعى سامي أميمور، وهو شاب في الثامنة والعشرين من عمره من ضاحية درانسي الباريسية، في 2012 أثناء محاولته السفر إلى اليمن للقتال هناك. وقالت أسرته إنه لم يكن يجيد العربية في ذلك الوقت ولم يبدأ إلا مؤخرًا في متابعة الأئمة المتشددين على الإنترنت، وحث والدته على ارتداء الحجاب. وفي 2013، انتهك أميمور الرقابة القضائية وغادر فرنسا إلى سوريا، مما دفع الشرطة إلى استصدار مذكرة توقيف دولية بحقه. وسافر والد أميمور إلى سوريا لإقناعه بالعودة إلى الديار في 2014، لكنه عاد إلى درانسي بمفرده. ومات أميمور في قاعة باتاكلان الموسيقية، حيث قتل ومهاجمان آخران ما يربو على 90 شخصًا. أما بلال حادفي، الذي كان في العشرين وهو أصغر المتآمرين المعروفين، كان يخضع لرقابة الحكومة البلجيكية بعد هجمات يناير (كانون الثاني) في باريس ضد مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة ومتجر لبيع الطعام اليهودي الحلال (الكوشير). حادفي الذي ولد في باريس وعاش في وقت لاحق في حي مولينيك في بروكسل، أعرب عن دعمه للمذبحة التي راح ضحيتها 17 شخصًا خلال أحد الصفوف بمدرسته. ولا تزال السلطات تسعى لتحديد هوية بقية المهاجمين، بمن فيهم اثنان يبدو أنهما دخلا أوروبا وسط المهاجرين القادمين إلى اليونان. وتحقق مع مشتبه بهم آخرين يعتقد في صلتهم بالهجمات.
مشاركة :