في عام 1987 انضمَمْت الى مجموعة من السيدات والرجال في ناد لليوغا والتأمّل بإشراف مُدرّبتنا النمساوية تانيا بندا، اتخذنا آنذاك من صالة في فندق هيلتون الكويت مكانًا لممارسة هذه الرياضة التأمّلية الجميلة. أتذكّر حينها دخل شاب ملتحٍ يرتدي زيًا وطنيًا قصيرًا الى الصالة، حيث طلب من المُدرّبة أن تسمح له بمتابعة نشاطنا. جلس ذلك الشاب لمدة تقارب ربع ساعة قبل أن ينهض ويغادر صامتًا. تَسْتَفز أو تُخيف اليوغا الكثير من المُلتَزمين دينيًا، ليس من المسلمين فقط، وإنما كذلك من المسيحيين واليهود، حيث دائمًا ما يطرح الناس في هذه الأديان مسألة تَعارُض اليوغا كَمُمارَسَة مع معتقداتهم الدينية بشكل عام. لا يوجد تاريخ مُحدّد يشير بدقة الى نشأة أو بداية اليوغا بخلاف كونها قد خرجت من الهند القديمة. وان كانت هنالك نظريتان حول النشأة الأولى، تقول إحداهما بأن اليوغا هي مزيج من ممارسات وطقوس السكان الأصليين مع بعض الملامح ذات الاصول الآريانية. أما النظرية الثانية فتعود بأصول اليوغا الى المخطوطات والكتب القديمة في الشرق، مثل «ابانيشاد» و«باغفادغيتا» وانها تعود الى أكثر من أربعة آلاف سنة. وهي نصوص من الترانيم والتراتيل التي تتناول نشأة الآلهة والكون، منها أربعة أجزاء ضخمة هي «الراميانا» و«المانوستري» و«البراهمة». أما أكثر التواريخ دقّة في نشأة اليوغا فهو ما ينص على أنها قد تكون نشأت في شمالي الهند قبل خمسة آلاف عام، وبأن أول إشارة الى مُفرَدة يوغا قد جاءت في مخطوط قديم بعنوان «ريغ فيدا» والفيدا هي عبارة عن أربعة نصوص قديمة تم تدوينها باللغة السانسكريتية. العلاقة بين اليوغا والهندوسية أو البوذية كمعتقدات ليست موثّقة، فأغلب التكهنات تقول إن كلتا العقيدتين استخدمتا اليوغا كطقوس وحركات بدنية لإطلاق الطاقة الكامنة في الجسد، لكن لا يوجد ما يُشير الى انها قد نتجت عن هاتين الديانتين، أما العالم الغربي فلم يبدأ في تَعلّم اليوغا إلا مع بداية خروج بعض الرهبان الى الغرب مع نهاية القرن التاسع عشر. حيث شَكّل قدوم سوامي فيفكاناندا ظهور اليوغا كثقافة في الولايات المتحدة عام 1883 لتبدأ معها عولمة اليوغا غربيًا فيما بعد ومن ثم لتمتد الى كل أنحاء العالم. اليوم اختفى الطابع العقائدي من اليوغا تمامًا واصبحت أقرب للرياضة البدنية منها الى المُمارَسة الروحانية. بحيث بدأت أغلب النوادي الرياضية في إدراجها ضمن أنشطتها وتحولت إلى موضة أو صرعة اجتاحت العالم كله، لذلك يغيب لدى أغلب المُمارسين لها اليوم ذلك الجانب الروحاني المُلهِم من اليوغا في مقابل التركيز على شقّها البدني الخالص. تنقسم اليوغا كفلسفة بشكل عام الى شقّين، الأول يرتبط بتقوية البدَن والتحكّم في التنَفّس وتحريك عضلات الجسم من الداخل، وهو ما أصبحت تستخدمه اليوم أغلب المعاهد الرياضية، أما الثاني فيرتَبط بالشق الفكري والروحاني، حيث تأتي رياضة التأمّل لتُحرّر الروح من سُلطة الجسد المادية ومن المعاناة الدنيوية، هي حالة من الانقطاع التام عن التفكير ونوع من التجرّد المُطلَق الذي يُطلق العنان للطّاقة وللروح الحبيسة في الجسد. يأتي التأمّل أكثر تحديًا من تمارين التنفّس والاسترخاء والحركة، فهو كرياضة روحانية يَسْتَغرق إتقانها مراحل تدريب وانتظام والتزام طويلة تؤدي في النهاية الى تراكم الخبرة الروحانية والفهم العميق للذات وللبصيرة وللكينونة وللحقيقة بشكل عام. وقد تمكّن العلم أخيرًا أن يَرْصد مثل هذا التأثير في المخ، وذلك مع توفّر أجهزة القياس المناسبة، وهنالك عدة تجارب قياس تم إجراؤها على بعض الرهبان في خلواتهم الروحانية واثبتت بالقياس اختلاف أنشطة الدماغ لديهم وبشكل واضح، ما اقنع الكثير من المُختصين في الطب والعلاج لجدوى استخدام مثل هذه المُمارَسَة في علاج مرضاهم، حتى أن أشهر المستشفيات في العالم كمستشفى جون هوبكنز، أصبح لديه قسم خاص للعلاج باليوغا والتأمّل. اليوغا - خاصة جانب التأمّل منها - هي علم عميق له أبعاد لن يُدركها إلا من سار في دربها، والذي يؤدي الى معرفة الإنسان لمكامن ومسارات الطاقة في روحه وجسده، وليتَعلّم بذلك سر التحكّم فيهما، ولا يمكن لأي مُمارِس أن يشرح مثل تلك التأثيرات لغويًا، فالحكمة تقتضي المُمارَسَة للتّحقّق فعليًا. وليس هنالك تعبير عن ذلك أقرب من مقولة شهيرة عند الصوفيين تنص على أن «من ذاقَ عَرف، ومن عرَفَ اغْتَرَف، ومن اغْتَرَفَ اعتَرَف، ومن اعْتَرَفَ أدْمَنَ ما عَرَف».
مشاركة :