الرواقيون الجدد .. مذهب فلسفي أم سفسطة مليارديرات؟

  • 2/17/2022
  • 00:04
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يرى لوك فيري الفيلسوف الفرنسي "تاريخ الفلسفة يشبه تاريخ الفن أكثر مما يشبه تاريخ العلوم، ففي الفن يمكن أن نحب رؤى وأعمالا مختلفة، تماما كما هي الحال بالنسبة إلى الفلسفة، إذ لا تعوض أو تستبدل التيارات المعاصرة المدارس الكلاسيكية". تصلح هذه المقولة لتفسير العودة المحمومة عالميا إلى الفلسفة الرواقية، فيوما بعد آخر، تتسع دوائر الاهتمام بهذا المذهب الفلسفي الهلنستي، وتزداد أعداد المقتنعين بمبادئ وأفكار "الرواقية الحديثة". في الأعوام الأخيرة، أضحت الفلسفة الرواقية موضة، نتيجة الاستهلاك الجماهيري المكثف لكل ما يتصل بها، من إقبال على شراء الكتب ومتابعة المحاضرات والمشاركة في التدريبات، والاهتمام بالأنشطة والمدونات والأخبار وحتى المؤتمرات.. إقبال أكدته مبيعات دور النشر التي سجلت - ولا سيما خلال فترة الجائحة - ارتفاعا في نسب مبيعات كتب الفلاسفة الرواقيين، الورقية "42 في المائة" والإلكترونية "356 في المائة". زمنيا، تعود "الرواقية" إلى 300 قبل الميلاد، إذ ارتبط ظهورها بتاجر يوناني يدعى زينون، فقد ممتلكاته في حادث غرق سفينة، فشرع في ممارسة الفلسفة في أحد أروقة أغورا الأثينية، داعيا إلى التناغم مع الطبيعة، والصبر على المشاق، والأخذ بأهداب الفضيلة. لم يكتمل صرح "الرواقية" إلا بعد شيوعها كمذهب في روما، رغم محاولات فلاسفة أمثال شيشرون وكريتيوس وديودوت وأتالوس وبورسيا، رفع صرحها، فلم تشع إلا عقب التحرير والتبشير بالمذهب الرواقي. فكتب الروماني ماركوس أوريليوس "تأملات"، وألف الفيلسوف سينيكا، مستشار الإمبراطور نيرون، كتاب "رسائل من رواقي"، وحرر إبيكتيتوس فيلسوف العبيد المحررين كتابه الشهير "المختصر". تدعو "الرواقية" أتباعها إلى أن يعيشوا حياة جيدة، باستخدام التفكير العقلاني، وأساس العقلانية لديهم أن الأشخاص لا يسيطرون على الأحداث الخارجية، ولا على استجاباتهم لتلك الأحداث، فأي شيء يحدث "الوباء، الحرب، المرض، أحوال الطقس، أفعال الآخرين..." دون أن تكون لك سلطة ولا سيطرة عليه، لا يستحق أن يكون سببا لتضيع الطاقة عليه. وبلغت مستوى "الترصد المسبق للشر"، أي تدريب العقل على التفاعل مع الأشياء السيئة المتوقع حدوثها، حد بلوغ مستوى قبول كل ما يحدث لك ومن حولك، بأريحية واستسلام مطلقين. يركز "الرواقيون" على "فن الحياة"، والفن هنا بمعنى معرفة طريقة العيش بانسجام مع الطبيعة الإنسانية ومع البيئة الاجتماعية والمادية، ولا يتحقق هذا الأمر إلا بالحفاظ على إرادة الفرد في انسجام مع الطبيعة. وصاغ أبكتيتوس الرواقي هذه الفكرة في مقولة مفادها أن "معين السعادة هو النفس لا الأشياء الخارجية". يرى كثيرون أن "الرواقية" نظام جبري، لا يترك المجال لإرادة الإنسان الحرة ولا لمزيد من المسؤولية. يبدي "الرواقيون" تحفظهم على هذا الادعاء، فـ"الرواقية لا تجبر أحدا على أن يكون (بقرة) تقف تحت المطر راضية بأي ظرف مأساوي"، ويذهب هؤلاء إلى أنها نقيض ذلك تماما، "نظام لاتخاذ قرارات أفضل، وتدريب نفسك على أن تكون أقل انفعالا". دفاعا عن قناعاتهم لم يتردد "رواقيون" في تعريف الإرادة الحرة بأنها "تكيف طوعي مع ما لا مفر منه"، وبسخرية بالغة تحدث أحدهم، قائلا، "تخيل أننا مثل كلب مربوط بعربة متحركة، إذا رفض الكلب الركض مع العربة فستجره، ومع ذلك يبقى الخيار له، إما الركض أو الانجرار". ما السر وراء العودة القوية إلى الفلسفة الرواقية حديثا، وماذا يضيف هذا المذهب إلى الإنسان المعاصر؟ أسئلة محيرة تظل بلا أجوبة باتة، يعضدها استفهام آخر عن الأوساط والأشخاص الذين تنتشر فيهم وبينهم هذه الآراء حاليا، في تعارض كلي مع أصحاب هذه المدرسة، في نسختها القديمة، ممن يغلب عليهم الميل نحو التقشف. أن تتمتع "الرواقية الجديدة" بشعبية في أوساط رواد أعمال أمثال جيف بيزوس وإليزابيث هولمز ووارن بافيت ومارك كوبان... وغيرهم، فهذا يوحي بأحد أمرين، إما تحريف الفلسفة عن أسسها وأصولها حتى تنسجم مع رؤية المليارديرات إلى الحياة، أو الإمعان في سوء استخدامها، بإخضاعها لعملية تعليب وانتقاء مخل، من أجل تقديم طرح فلسفي قابل للتسويق في أوساط هذه الفئة من "النجوم". تحدث جريج سادلر أحد دارسي موجة الرواقية الحديثة، عن أن هذا الارتفاع الحاد أدى إلى ظهور نكهة وادي السيليكون للرواقية، وهي مزيج من "البوذية" و"طقوس اليقظة الذهنية".. كل ذلك من أجل اكتساب المهارات اللازمة لبناء الشركات الناشئة. واعتبر آخر "صناعة تطوير الذات" أعادت اكتشاف الرواقية، وصاغتها على المقاس، باعتبارها الفلسفة الأمثل والأنسب لتطوير الذات. تعمل "رواقية المليارديرات" على قلب الفلسفة الرواقية بشكل معكوس، إذا كان سينيكا، رائد الرواقية القديمة، حريصا على التنبيه إلى أن معاناة الإنسان تبدأ عندما يغيب لديه الحاضر، فيقتصر نظره على الماضي أو المستقبل، "من فرط العيش في الماضي والمستقبل تعوزنا الحياة". فإن "الرواقيين الجدد" يقدمون في المقابل، جملة من الحيل الحياتية للتغلب على القلق، وتخفيف الغضب، وتحقيق السكون والهدوء. لذلك، ليس مستغربا، ولا حتى عجيبا، أن تحب وتتبنى وتنتصر، هذه الفئة من الأشخاص تحديدا، فلسفة لا تتطلب منهم التخلي عن ثرواتهم، بل فقط قبول دورهم في هذا العالم، وتقديم المشورة إلى الأقل حظا، مضمونها عدم القلق كثيرا بشأن ظروفهم، وتقبل نصيبهم، مذكرين إياهم بواقعة زينون الفيلسوف الرواقي عندما فقد كل ممتلكاته. يتلافى المبشرون بالرواقية الجديدة التعريج، ولو من باب التلميح، على السؤال الصعب الذي يؤطر هذا المذهب الفلسفي، منذ أول ظهور له في التاريخ، "ما معنى كونك إنسانا؟"، لأن الإجابة الصادقة عنه تعني العيش حياة كاملة مستوفاة، بعيدا عن سفسطة رواد الأعمال.

مشاركة :