توالت الأزمات البيئية والجغرافية على لبنان، فكان لها وقع كبير في تغيير جمالية الحياة وغيرت من ملامح البلد الكثير، تساعدها في ذلك الأزمات السياسية المتعاقبة، لكن الفن يقف في وجه كل ذلك منذرا بخطورة الوضع ومحتفيا بالكثير من الألم بـ”ما تبقى” من لبنان الذي يحتاج وقفة جماعية للحفاظ عليه واستعادة ما فقد منه. بعد مشاركته كأول جناح لبناني في المعرض العالمي للعمارة في مدينة البندقية الإيطالية عاد مشروع “ما تبقّى” إلى بيروت وذلك بعد تأجيله بسبب انتشار وباء كورونا. عاد المشروع الذي تضمن معرضا كبيرا بعنوان “ما تبقى” وذلك من العاشرمن فبراير الحالي إلى العشرين من شهر مارس القادم. وشكل معرض “ما تبقى” حدثا نوعيا ليس لأهميته فقط ولكن لكونه جمع ما بين العلم والفن، وما بين التاريخ والتطلعات المستقبلية دون غياب النفحة النوستالجية التي لجمها علم هندسة العمارة والجيولوجيا وعلم الإحصاء ومسح الأراضي. نظمت هذا المعرض المُهندسة المعمارية هالة يونس وقوامه جرد أو مسح منهجي لما تبقى من أرض لبنان. وجرى تبيان هذا المسح للجمهور بشكل واضح ومشوّق جدا، حتى وإن كان الأخير لا يتمتع بمعرفة كبيرة بعلم المسح الجغرافي والبيئي، وذلك بواسطة خارطة ثلاثية الأبعاد وصور فوتوغرافية وفيديو. سلط المعرض الضوء بشكل خاص على وادي نهر بيروت. ويمكن اعتبار هذا المعرض نوعا من التقييم العميق لواقع الأرض اللبنانية لا يخلو من شعرية عالية ذات مسحة تراجيدية لربما لأنه يختصر وطنا بكل أخاديده العميقة وندباته الجغرافية والبيئية التي لم تصنعها الطبيعة وتقلباتها لوحدها بل شارك فيها الإنسان. إنسان أقل ما يقال فيه إنه خرج عن إنسانيته. المشروع يهدف إلى تسليط الضوء على القوة المواجهة، المُعارضة، تلك التي تقاوم سيل الإعمار فتغير مساره المشروع يهدف إلى تسليط الضوء على القوة المواجهة، المُعارضة، تلك التي تقاوم سيل الإعمار فتغير مساره تميزت الخارطة ثلاثية الأبعاد بالقدرة على تجسيدها على ما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة. ولعبت أعمال الفنانين غريغوري بجقاقجيان وكاترين كاتاروزا وجيلبير حاج، وهدى قساطلي، وطلال خوري دورا كبيرا في تبيان إشكالية علاقة اللبنانيين بالمشاهد الطبيعية بشكل عام وبالأرض بشكل خاص. ولعل كلمات منسقة المعرض هي الأوضح والأكثر زخما في التعبير عن فكرة هذا المعرض وقيمته على العديد من المستويات الفنية والعلمية والثقافية والحضارية. وتعقيبا على كلام المهندسة يوم القول إن هنا تماما جاء دور الفنانين ونقصد بهم المصوّرين الفوتوغرافيين والعاملين في الفيديوغرافيا، من أمثال جيلبير حاج وطلال خوري، الذين جاؤوا من خلفية ثقافية وفكرية مكتظة بالخبرات والدراسات. وقد عرف هؤلاء بأعمال فوتوغرافية متميزة مشحونة بالمعاني مما جعلها تنتمي بكل سهولة إلى عالم الفن المفهومي.وحول ذلك أوضحت المهندسة المعمارية المنسقة لهذا المعرض هالة يونس أن لبنان هو “من أكثر البلدان كثافة سكانية. وهو يقع في منطقة تجتاحها النزاعات والحروب. كما أن هشاشة محيطه وضيق الأفق يعيداننا بالذاكرة إلى قرن مضى حيث أدت الحرب وموجتا الجراد إضافة إلى الحصار البري والبحري واحتكار الأراضي الزراعية لإنتاج الحرير إلى أعظم فاجعة في تاريخنا الحديث حيث يقدر أن جبل لبنان فقد أكثر من ثلث سكانه.. واليوم يكتسح الأرض شكل مديني، عشوائي ومتناثر يفتقر إلى التنظيم ويصعب تفسير هذه الظاهرة بالأساليب المنهجية المعتمدة في الهندسة والتنظيم المدني، أي عن طريق تحليل أشكال العمارة ومنطق الشبكات..”. "ما تبقى" نوع من التقييم العميق لواقع الأرض اللبنانية لا يخلو من شعرية عالية ذات مسحة تراجيدية أما مشاركتهم في هذا المعرض على الرغم من قيود المواضيع المطروحة حافظت على فنيتها وحدتها الشعرية لتأخذ الناظر إليها إلى ما هو أبعد من الصورة الملتقطة وبالأخص إلى علاقتها مع باقي الصور المعروضة التي شكلت وإياها نصا سرديا متماسكا عن أرض متخلخلة لا زالت تملك من يريد إنقاذها وهو يستطيع فعل ذلك لو أتيحت له الفرص. تشكل الخارطة ثلاثية الأبعاد حالة فنية وعلمية بحد ذاتها تم نسجها “ضوئيا” إذا صح التعبير لتكون حاضرة بكل زخمها وهشة بكل ما تعرضت له ولا تزال من مخاطر امّحاء تام. واللافت في هذا المعرض أنه حين يغوص المُشاهد في أثيرية تلك الخارطة حتى يشعر بهشاشة جنسيته اللبنانية وحضوره على أرض لبنان افتراضيا كان ذلك أم واقعيا تجيء الصور الفوتوغرافية المعروضة للمشاهد الطبيعية لاسيما تلك التي قدمتها هدى قساطلي لتذكره أنه في أرض الواقع الذي لا زال صامدا ويكفي أنه رُصد، أي الواقع، هو وصموده ليتم إنقاذه. وتصف منسقة المعرض هالة يونس هذا التقهقر بكلمات صائبة وشديدة البصرية إذ تقول “تتراكض المدينة وراء الطرقات المستحدثة وكالماء الجاري تملأ أصغر الفراغات.. لذلك يهدف المشروع إلى تسليط الضوء على القوة المواجهة، المُعارضة، تلك التي تقاوم سيل الإعمار فتغير مساره وهو يهدف إلى تبيان ما تكتمت عليه المدينة”. وكثير هو ما تكتمت عليه المدينة بداية بتلويث الأرض وإهمال المنشئات التاريخية تارة وتدميرها منهجيا تارة أخرى ويشمل أيضا ما تكتمت عنه تلك بنى تحتية متروكة ومصانع قديمة مهجورة والأراضي الزّراعية البائرة وتلك التي أتلفتها الآفات الحشرية والمساحات العامة المجهولة الملكية والمقالع المهجورة والمشوهة للطبيعة والمبدلة للأحوال المناخية المعتدلة التي لطالما اشتهر بها لبنان. حالة فنية وعلمية حالة فنية وعلمية ونذكر أيضا القرى المنسية والقرى التي تعرضت إلى الجرف الموسمي بالأمطار وغيرها من الأماكن التي تعيش على هامش الحياة منتظرة لحظة إعدامها. غير أن المعرض ليس رثاء لما كان أو ما سيُفقد قريبا بل على العكس فهو إيجابي في طرحه وإيجابي في عمله وإصراره على وقف الانهيار. وفي هذا السياق بالتحديد يمكن اعتبار المعرض منهمكا بأمرين: أولهما “تخيّل” ما يمكن فعله لإنقاذ الأرض بداية بالوعي والحس بالمسؤولية وصولا إلى ما يمكن تصوره هندسيا وبيئيا. أما الأمر الآخر فهو معني بمشاركة الجمهور العالمي بصور منجزة بتقنية عالية “بما تبقى” من مشاهد لبنانية ساحرة لم تقع بعد ضحية الزحف المدني أو الاستغلال أو التلويث البيئي. معرض “ما تبقى” هو موجه أولا إلى كل لبناني يعيش البلد في ذاكرته، لاسيما ذاك اللبناني الذي هو من ناحية مسكون بوطنه ومن ناحية أخرى قادر على أن يساهم فعليا بلجم الانهيار.
مشاركة :