كان أول ما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية وتحذيرات الغرب من غزو روسي محتمل للبلد الجار، مقطع فيديو قديم من مسلسل “خادم الشعب” يتضمن مشهدا تمثيليا يؤدي فيه فولوديمير زيلينسكي دور أستاذ تاريخ يصبح رئيس جمهورية، قبل أن يفاجأ بفرار شعبه بعد أن ينزل إلى الشوارع ويجدها فارغة. دور كاد يتحوّل إلى حقيقة في الأيام الماضية التي شهدت نزوحاً لعدد كبير من المواطنين خوفا من اندلاع الحرب. شعبوية من نوع آخر كان زيلينسكي ممثلا كوميديا معروفا في بلاده، قبل أن يفكّر في الترشّح لمنصب الرئيس، في الواقع لا في الدراما، عام 2019. حياة الأوكرانيين الصعبة قبله، ورفضهم لفساد الطبقة الحاكمة جعلتهم يختارون زيلينسكي. هؤلاء الذين عاشوا المعاناة تلو المعاناة منذ أن ظهرت بجوارهم قوة سَمّت نفسها روسيا وسرقت منهم حتى اسمهم التاريخي. فأوكرانيا هي روسيا القديمة وما يعرفه العالم اليوم هو نمو لا يراه الأوكرانيون شرعيا لمن يرون فيهم سلطة تناوبت على استغلالهم منذ أيام القيصر وستالين وصولا إلى الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين الذي ضم شبه جزيرة القرم وشجع الأجزاء الشرقية الانفصالية من أوكرانيا على التمرد، وها هو اليوم يتحضّر لاجتياح وطنهم. في نهاية السبعينات وفي كريفي في الجنوب الأوكراني ولد زيلينسكي في أسرة يهودية. لم يعش الحقبة الشيوعية لأكثر من عقد من الزمن، فقد انهار كل شيء مع بداية تفتّح وعيه، فاتجه لدراسة القانون، وتخرّج محاميا. قرار بوتين الاستفزازي بمنح جوازات سفر روسية للمواطنين الأوكرانيين في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون، رد عليه زيلينسكي بالسخرية، معلناً منح الجنسية الأوكرانية للروس وغيرهم ممن قال إنهم "يعانون من أنظمة استبدادية أو فاسدة" موهبة زيلينسكي في التمثيل وميله نحو الكوميديا أبعدته عن العمل في المحاماة، فأخذ يشق طريقه نحو الشاشة، منطلقا من عروض كوميدية ارتجالية تألق فيها بالشراكة مع قناة “كفارتال 95”. بعدها قام بتأسيس منظمة سماها “رابطة الضحك غير الحكومية”، وانتشر اسمه في عالم الكوميديا عبر المسلسلات والأفلام، وحصد أكثر من 30 جائزة محلية ودولية. من اللحظات الأولى للثورة الشعبية التي نجحت في العام 2014 بالتخلص من رجل موسكو فيكتور يانوكوفيتش وأوكرانيا تعيش تحولاتها الداخلية. بدأ كل شيء يتغيّر بسرعة، صراعات سياسية تحسم بسرعة، وفساد ونفس حرية متصاعد، وكانت كل سهام الاتهام تتجه دوما نحو الشرق، وشيئا فشيئا أخذت أوكرانيا تبتعد عن الفلك الروسي. أراد زيلينسكي أن يقدّم نموذجا مختلفا، مستندا إلى حاجة الشارع الأوكراني إلى شخصية ذات شعبية جارفة، ولم يكن أي من السياسيين يتمتع بمثل هذه الميزة، لكن الشاشة والعصر الحديث سيمنحان للممثل الكوميدي ما لم يمنحاه للسياسيين. ترشّح للانتخابات الرئاسية وانتصر على منافسه بيترو بوروشنكو بنسبة تتجاوز 70 في المئة من أصوات الناخبين. حينها علت أصوات تشكو من الشعبوية وتقول إن صعود هذا الممثل الكوميدي لا يختلف عن صعود ترامب وأمثاله حول العالم، وأنه لا ينطوي سوى على الفراغ ولن يقدّم شيئا. المشكلة في موسكو ◄ هزيمة زيلينسكي ستحوله إلى رمز وطني في أوكرانيا، أما انتصاره فسيقودها إلى وضع أصعب وسط صراع العمالقة ◄ هزيمة زيلينسكي ستحوله إلى رمز وطني في أوكرانيا، أما انتصاره فسيقودها إلى وضع أصعب وسط صراع العمالقة هاجس كل أوكراني، سواء كان سياسيا أو من عامة الناس، هو ما يفكّر فيه رجل يحكم الكرملين، وهذه المرة هو بوتين الحالم باستعادة أمجاد القيصرية وإرث الاتحاد السوفييتي معا، فالويل لأوكرانيا التي بدأت تتمرّد ولم تتعلم الدرس من جيرانها كما في حالة روسيا البيضاء وغيرها. وعد زيلينسكي بالعمل على تحسين العلاقات مع بوتين، على الأقل لتخفيف ما يجري في المناطق الانفصالية الأوكرانية التي تدعمها روسيا. قابله في باريس، وخرج بوتين مرتاحا. إلا أن الرئيس الروسي لا يمكن أن يرتاح لمن يعتقد أنه بات يتوهّم نفسه ندا لروسيا، وهذا ما اتضح من تصريحات زيلينسكي ذاته الذي قال عن ذلك الاجتماع “قال نظرائي إنها نتيجة جيدة جدا لاجتماع أول. لكنني سأكون صادقا، إنها نتيجة منخفضة جدا”. بوتين لم ينس ذلك. وبدأ مسار من التصعيد يحكم العلاقة بين موسكو وكييف وصولا إلى أيامنا هذه وحديث الغزو. فبدأ بقصف زيلينسكي متهما إياه بـ”التمييز” ضد الناطقين بالروسية من الأوكرانيين، وكذلك بالتنصل عن التزامات أوكرانيا حيالهم. وهي أزمة اندلعت في عهد سلفه الرئيس بيترو بوروشنكو. فاجأه بوتين بهدية فوز من نوع خاص، حين أعلن منح جوازات سفر روسية للمواطنين الأوكرانيين في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون. استعمل زيلينسكي سلاحه الأمضى وهو السخرية، لكنه لم يكتف بالتهكم على بوتين، بل رد عليه عبر حسابه على فيسبوك مقررا منح الجنسية الأوكرانية للروس وغيرهم ممن قال إنهم “يعانون من أنظمة استبدادية أو فاسدة”. أوكرانيا بقيادة زيلينسكي تستثمر في كون خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط بين روسيا وألمانيا سلاحا جيوسياسيا وباللغتين الروسية والأوكرانية تعمّد زيلينسكي توجيه خطاب يكرّس الوحدة الوطنية، وقرّر حلّ البرلمان الذي لم يكن عضوا فيه أساسا. وأعاد إجراء انتخابات تشريعية اعتبرها حينها أهم من مثيلتها الرئاسية. وفيها حصل على 254 مقعدا من 450 مقعدا، منها 26 مقعدا تمثل شبه جزيرة القرم. وسجّل المراقبون حينها تحولا تشهده أوكرانيا لأول مرة منذ الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي، بحيث بات حزب واحد يهيمن على السلطة التشريعية. خريف العام 2019 سيواجه فيه زيلينسكي مشكلة غير متوقعة، فقد سرّب عميل للمخابرات الأميركية شكوى رسمية بحق الرئيس ترمب، تتصل باحتجاز الأخير لحزمة مساعدات عسكرية كبيرة لأوكرانيا، وجعلها مشروطة بفتح أوكرانيا لتحقيق حول مخالفات منسوبة إلى نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وابنه هانتر. بعد ترشّح بايدن للرئاسة، رفض فريق زيلينسكي طلبا للقاء جولياني محامي ترامب لمناقشة ما اعتبروه مسألة تتعلق بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة، لكن ترامب واصل متابعة الادعاءات، حتى بلغ به الاندفاع لفتح حوار مع زيلينسكي في مكالمة هاتفية مشتركة في 25 يوليو 2019 كرّر فيها الطلب بالتحقيق مع عائلة بايدن. في الواقع كان الرئيس الشاب يتعرّض لضغوط كبيرة حينها، لكنه حاول الثبات على موقفه، بعيدا عن صراع الفيلة في واشنطن، وفي الوقت نفسه بقيت 400 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأميركية معلّقة نتيجة لذلك، حتى تم الإفراج عنها أخيرا. في مرمى النيران ◄ زيلينسكي يريد الانضمام إلى الناتو، والابتعاد أكثر ما يمكن عن بوتين ونفوذه، لكنّ أميركا والأوروبيين ما زالوا مترددين ◄ زيلينسكي يريد الانضمام إلى الناتو، والابتعاد أكثر ما يمكن عن بوتين ونفوذه، لكنّ أميركا والأوروبيين ما زالوا مترددين يريد زيلينسكي الانضمام إلى الناتو، والابتعاد أكثر ما يمكن عن بوتين ونفوذه، لكنّ الأوروبيين ومن خلفهم أميركا لم يلبوا طلبه كما يعلنون، ولو أنهم فعلوا لما فكّر بوتين بحشد قواته وتطويق أوكرانيا كما هو الحاصل حاليا. قد كرّر ذلك حتى في لقائه الأخير مع المستشار الألماني أولاف شولتس حين قال إن بلاده ستواصل السعي لتحقيق هدفها بالانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي على الرغم من الغضب الروسي، مضيفا “اليوم يلمح العديد من الصحافيين والعديد من الزعماء لأوكرانيا أنه من الممكن عدم المجازفة وعدم إثارة قضية العضوية المستقبلية في التحالف باستمرار؛ لأن هذه المخاطر مرتبطة برد فعل الاتحاد الروسي”. كما لوّح بموضوع الغاز ليثير غضب بوتين أكثر، حين قال إن أوكرانيا تعتبر خط أنابيب الغاز المثير للجدل “نورد ستريم 2” الذي يربط بين روسيا وألمانيا “سلاحا جيوسياسيا”. الغرب، من جانبه، يريد من زيلينسكي مواصلة لعب الدور، والممثل الذي يبدو أنه تمرّد على المخرج ليتحول بالفعل إلى “خادم للشعب” يتحدى بوتين بالمزيد، رغم الإعلان الروسي عن سحب القوات، فلم يفوت الرئيس الأوكراني مناسبة عيد الحب، دون أن يبعث برسالة مستفزة لبوتين، حين ظهر في مقطع فيديو مع زوجته بمناسبة عيد الحب، مرددا “نحن معا، نحن في المنزل، نحن في أوكرانيا”، متبادلا معها القبلات والورود. زيلينسكي يقدّم نموذجا مختلفا، مستندا إلى حاجة الشارع الأوكراني إلى شخصية ذات شعبية جارفة، في الوقت الذي لا يتمتع أي من السياسيين التقليديين بمثل هذه الميزة قبل أيام قليلة فقط عاد زيلينسكي إلى الظهور مجددا للاحتفال بـ”يوم الوحدة” الذي يهدف إلى “توطيد المجتمع الأوكراني، وتعزيز استقراره في مواجهة التهديدات الهجينة والمعلومات والدعاية والضغط الأخلاقي والنفسي الذي يستهدف الوعي العام”. وقال في كلمة مسجلة مشيرا إلى سيناريوهات الغزو “قيل لنا إن 16 من فبراير هو اليوم المرتقب للهجوم، ونحن سنعلنه يوم الوحدة، لقد تم توقيع المرسوم ولنظهر وحدتنا للعالم بأسره”. على الرغم من تلميح بعض وسائل الإعلام العربية إلى ديانة زيلينسكي اليهودية للتشكيك كالعادة بولائه الوطني لصالح إسرائيل، إلا أن الأخير لم يتصرف حتى هذه اللحظة إلا كمواطن أوكراني يراعي مصالح بلاده. وقد أعلن مسؤول كبير بوزارة الخارجية الإسرائيلية أن السفير الإسرائيلي لدى أوكرانيا مايكل برودسكي استُدعى الخميس الماضي من طرف وزارة الخارجية في كييف لما أسماه بـ”توجيه توبيخ له”. وسبب ذلك أن إسرائيل توجهت لروسيا وسعت للتنسيق معها لإجلاء المواطنين الإسرائيليين والدبلوماسيين من أوكرانيا في حال حدوث غزو، بحسب ما نشر في موقع “واللا” الإسرائيلي. وكانت إسرائيل، قد وجهت الليلة بالفعل، رسالة إلى موسكو أوضحت فيها أنها ستحتاج إلى المساعدة في إجلاء المواطنين والدبلوماسيين الإسرائيليين في حالة غزو أوكرانيا، بعد أن غادر حوالي ثلاثة آلاف إسرائيلي أوكرانيا من أصل عشرة آلاف إسرائيلي آخرين بقوا في البلاد. موقف زيلينسكي هذا يرسم ملامح أكثر وضوحا لشخصيته السياسية وللمكانة التي بات يحتلها في بلاده، وحتى اليوم لم ينته مسلسل “خادم الشعب” ولا يريد له زيلينسكي أن ينتهي بخاتمة تشبه نسخته التلفزيونية. فلا يزال الرئيس الأوكراني يردّد أنه لا يرى أي انسحاب للقوات الروسية من مواقع قريبة من الحدود الأوكرانية، مشددا على أنه يتعامل مع “الحقائق” التي لديه. وموجها من جديد خطابه إلى الشعب الذي قال عنه “أعتقد أن كل الناس العاديين يتوقعون وقف التصعيد. أما بالنسبة إلى التهديد فقد قلت مرات عديدة إننا نتعامل بهدوء مع أي تهديدات لأننا نتذكر أن كل هذا لم يبدأ أمس. هذا يحدث منذ سنوات عديدة”. ولو خسر زيلينسكي في لعبته هذه، فسيتحول إلى رمز كبير في تاريخ استقلال أوكرانيا الوطني، أما لو ربح فسيقودها إلى وضع أصعب مما هي فيه الآن بين العمالقة، فهو ليس ذاك المهرّج البريء الذي صوّرته الكاميرات ذات يوم. وها هو رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين، يشكو من استراتيجية زيلينسكي الخفية، ويقول إنه يستبعد إجراء محادثات مباشرة مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، معبّرا بذلك عن رفضه الصريح لتنفيذ اتفاقيات مينسك. فولودين كتب ذلك على حسابه في تلغرام متهما زيلينسكي بالتلاعب بالروس. فأي صداع يشكّله هذا الممثل الكوميدي للدب الروسي ورجالات روسيا المتعنّتين وكيف سيخرج ويخرجون معه من هكذا وضعية معقدة؟ الجواب عند بوتين أم عند زيلينسكي؟ لعل طرح السؤال بهذه الصيغة ليس كافيا للقول من هو زيلينسكي اليوم، فهل تضخّم زيلينسكي أم تقلّص بوتين؟
مشاركة :