لست معتادًا أن أكتب عن الأزمات في ذروة احتدامها لسبب بسيط مؤداه أن الأزمات تحمل في طياتها كل السيناريوهات وخاصة ذات الصلة بمسائل الأمن القومي بالنظر إلى ارتفاع سقف مطالب طرفيها، إلا أنه بحكم استحواذ الأزمة الأوكرانية على جل اهتمامات الباحثين في جميع أنحاء العالم فإن ثمة ضرورة لإعادة تناولها مجددًا، ومع تقديري لكل ما كتب من تحليلات فإن مسارها الفكري هو حسابات الربح والخسارة بشكل حدي وهو أمر يجافي الواقع، صحيح أن للصراعات كلفة سياسية واقتصادية وأمنية، ولكن بالنظر إلى طرفي الصراع في الأزمة الراهنة فإن المعادلة الصفرية في العلاقات الدولية لا تصلح لتفسيره ومضمونها ببساطة هو أن مكاسب طرف ما ليست سوى خسائر للطرف الآخر، وبمعنى آخر تعد الأزمة الأوكرانية تمرينًا عنيفًا لممارسة الردع من أجل إقرار توازن قوى ما حلف شمال الأطلسي «الناتو» وروسيا. التطورات اليومية يعرفها الجميع ولكن ما آثار اهتمامي ثلاث نقاط الأولى: ممارسة الردع المتبادل وتأثيره على مسار الأزمة، والثانية: مفهوم توازن القوى وتأثيره على تأسيس أمن مستدام، والثالثة: أين الشرق الأوسط من ذلك الصراع؟ وبداية على الرغم من ارتباط مفهوم الردع بحقبة الحرب الباردة إلى حد كبير فإن ممارسة ذلك المفهوم ظل لصيقًا بكل الأزمات الإقليمية والدولية، ويعني ببساطة إرسال رسالة إلى الطرف الآخر مضمونها أن إقدامه على تصرف ما سوف يكلفه الكثير وتفوق خسائره الفوائد المرجوة منه، بمعنى آخر إن الردع هو التلويح بالقدرة على التهديد وليس ممارسته، وتوجد شروط لممارسة الردع وهي وضع خطوط حمراء من جانب كل طرف من أطراف الصراع، وإظهار القدرة على حماية تلك الخطوط وأخيرًا ضرورة تناسب رد الفعل مع الفعل بما يضمن أن يظل الصراع منضبطًا، وفي تقديري أن ذلك المفهوم قد وجد سبيله نحو التطبيق بوضوح في تلك الأزمة من خلال الحشود والحشود المضادة مع الفارق في العتاد، ثم إعلان كل طرف بوضوح مطالبه من دون مواربة، فضلا عن توظيف كل آليات إدارة الأزمات سواء الاتصال المباشر أو الحرب الدعائية وتأسيس شراكات. ومع أهمية ما سبق ففي تصوري أننا إزاء صراع لم تكن الأزمة الأوكرانية منشئة له بل كاشفة لعمق وتجذر ذلك الصراع الممتد من حقبة الحرب الباردة حتى الآن بين خصمين لدى كل منهما من مصادر القوة ما يكفي لترسيخ احترام متبادل لأمنهما القومي ولم يكن ذلك سوى مؤشرات لمعركة حول ترسيخ مفهوم توازن القوى في القارة الأوروبية، أخذًا في الاعتبار أن الولايات المتحدة قد أرست ذلك المفهوم في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية من خلال أداة اقتصادية تمثلت في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا وأداة دفاعية تمثلت في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ويتضمن مفهوم توازن القوى جانبين أحدهما مادي ويعني وجود قدر مساو من القوة العسكرية لدى كل طرف، والثاني إدراكي أي حتمية إدراك أطراف الصراع لمقدار القوة لدى الطرف الآخر، وربما كان ذلك المعنى مقبولا خلال حقبة الحرب الباردة والتي كانت تعني اختزال مفهوم القوة في الجانب العسكري فحسب بيد أنه مع وجود قدرات سيبرانية لدى أطراف الصراع فإننا إزاء مشهد مغاير، من ناحية ثانية فإن الصراع لا يدور بين قوى كبرى في فضاء جيواستراتيجي ممتد وإنما بلغ ذروته في أحد مفاصل التماس الاستراتيجي « أوكرانيا» والتي أضحت ساحة لاستعراض كل قدرات الردع ومدى إمكانية ممارسته. لا أود المزيد من الاستطراد في مفاهيم نظرية بحتة ولكنها كانت -ولاتزال- هي الحاكمة لذلك الصراع بل إن بعض التحليلات الغربية التي استرعت انتباهي كانت تطبيقًا واضحًا لتلك المفاهيم، بمعنى آخر إنه إذا سلمنا جدلاً بقدرة طرفي الصراع على ممارسة الردع المتبادل فإن المخرج من تلك الأزمة – كما تضمنته تلك التحليلات- تعهد الناتو بعدم ضم أوكرانيا على مدة زمني طويل ربما عشر سنوات بما ينزع فتيل المخاوف الأساسية لدى روسيا، فضلاً عن إمكانية التفكير في تأسيس منتدى موسع للحوار يضم روسيا وكل الأطراف المعنية بالأمن في أوروبا يستهدف مناقشة مضامين وآليات ترسيخ منظومة الأمن في تلك المنطقة خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة والتي لاتزال تشهد حالات من الفعل والفعل المضاد ما يفاقم من هوة الشقاق بين روسيا والغرب عمومًا ليس فقط في المجال الأوروبي بل في مناطق أخرى منها منطقة الشرق الأوسط والتي يثار حولها تساؤل منطقي: هل سوف يمتد الصراع الحالي إلى تلك المنطقة؟ الإجابة قدمها الجنرال الأمريكي إريك كوريلا المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأمريكية بالقول أمام أعضاء مجلس الشيوخ إنه «إذا غزت روسيا أوكرانيا، فقد يؤدي ذلك إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا»، وقد لوحظ صدور تحليلات عديدة تمحورت حول تهديد صادرات القمح الأوكرانية والروسية لدول الشرق الأوسط بما يعنيه ذلك من تكرار تحدي الأمن الغذائي مجددًا على غرار جائحة كورونا بل ربما أكثر حدة، بالإضافة إلى تأثير تلك الأزمة في مضامين التعاون بين روسيا ودول المنطقة وخاصة قطاعي الطاقة والتسلح. في تصوري أن المسألة لن تكون بذات ذلك التبسيط بل ستكون أكثر نطاقًا فدول منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ترتبط بعلاقات متنوعة بشكل متواز مع الدول الغربية سواء بشكل ثنائي أو من خلال منظمة حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وحتى قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية كان هناك تنافس محموم بين روسيا والدول الغربية في مثلث تفاعلات امتد من سوريا إلى شرق المتوسط لينتهي في منطقة القرن الإفريقي، وربما كان مقبولاً القول قبل تلك الأزمة أن العالم بصدد حرب باردة جديدة إلا أنه ربما تسفر تلك الأزمة عن سعي أطرافها لتأسيس تحالفات لن تكون منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي بمنأى عنها بما يعنيه ذلك من استحقاقات إقليمية ودولية لمرحلة جديدة من الصراع ليس أقلها أنها تقدم فرصة مجددًا لدور أوروبي فاعل تجاه أزمات المنطقة ليس بسبب التحدي الروسي والصيني فحسب بل في ظل أولويات الولايات المتحدة الأمريكية بشأن بحر الصين الجنوبي واستمرار التهديدات الإقليمية بل واتخاذها مسار أكثر عنفًا. وجل هذا المقال أنه يخطئ الظن من يتصور أنه يمكن الحديث عن أمن إقليمي وآخر عالمي، وهو بقدر ما يتيح فرص للتحالفات والشراكات بقدر ما يفرض تحديات وفي مقدمتها القدرة على تحقيق توازن القوى سواء ضمن شراكات وتحالفات ثنائية أو عبر ترتيبات للأمن الإقليمي تأخذ في اعتبارها تغير مفهوم الأقاليم من ناحية ومضمون الأمن من ناحية أخرى. } مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :