شهد شرق أوكرانيا في الأيام الأخيرة، تصاعداً في التوتر وعمليات قصف جديدة. ووفقًا لتقرير مراقب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في يوم 19 فبراير الجاري وحده، وقع أكثر من 1500 انتهاك لوقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا، وهو أعلى رقم ليوم واحد هذا العام، وتم إجلاء عدد كبير من الناس إلى روسيا. وفي ظل تصاعد الصراع الجيوسياسي بين روسيا وأوكرانيا، تستخدم الأطراف المعنية في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وأوكرانيا آليات دولية متعددة الأطراف لممارسة اللعبة والسعي لتحقيق أقصى قدر من مصالحها. أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن وجهة نظر أساسية في مؤتمر ميونيخ للأمن يوم 19 فبراير الجاري، المتمثلة في جعل الغرب أوكرانيا "درعًا أوروبيًا" في الصراع والمواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، ونظرًا لأن نظام الأمن الدولي التقليدي أصبح قديمًا وانهيارا، فقد دعت أوكرانيا إلى عقد اجتماع للقوى العالمية المكونة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا وتركيا، من أجل توضيح ما إذا كانت تريد انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وبالمقارنة مع "تصريحات أوكرانيا البريئة" و "مطالبها المعقولة"، تم تصوير روسيا على أنها "داعية للحرب" و "معتدية" من قبل القوى الغربية ووسائل الإعلام. وفي مواجهة الاستفزازات الأمريكية والاتهامات الباطلة لوسائل الإعلام الغربية، فعل الرئيس بوتين العكس: من ناحية، سحبت قواتها من الحدود الروسية الأوكرانية واستقبلت عددًا كبيرًا من اللاجئين من الجزء الشرقي من أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، تلتزم بحل الأزمة بالوسائل الدبلوماسية، في محاولة للحصول على "ضمانات أمنية" ذات طبيعة القانون الدولي الذي توفره الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. بطبيعة الحال، فإن روسيا وأوكرانيا سيكونان الطرفان الأكثر تضرراً من تصعيد الصراع بينهما، فهو لن يدمر الأرواح ويولد عددًا كبيرًا من لاجئي الحرب فحسب، بل سيؤدي إلى إشعال الحروب وإضعاف القوة الوطنية لبعضهما البعض أيضًا. لذلك، تأمل روسيا وأوكرانيا بصدق في الحصول على "ضمانات أمنية" التي تريدها، كما لا يريد الاتحاد الأوروبي أن تؤدي الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حرب واسعة النطاق. وفي ظل التأثير المزدوج للوباء العالمي وأزمة اللاجئين، يوجد في أوروبا الغربية عدد كبير من اللاجئين، والفجوة بين الأغنياء والفقراء خطيرة. وقد يشهد المجتمع الأوروبي تأثراً كبيراً في حال نشوب جولة جديدة من أزمة اللاجئين نتيجة الصراع الروسي الأوكراني. لذلك، قام مسؤولون كبار في الاتحاد الأوروبي وقادة فرنسيون وألمان مؤخرًا برحلات مكوكية بين موسكو وكييف، في محاولة منهم للتوسط في حل الصراع بين روسيا وأوكرانيا. في الواقع، تأمل الولايات المتحدة في تصعيد الصراع الروسي الأوكراني وحرب جيوسياسية في أوروبا. وإن الهدف من سعي الولايات المتحدة إلى إيجاد فرصاً لخلق بعض النقاط الساخنة أو الاضطرابات هو السيطرة على الشؤون الأمنية الأوروبية ومنع أوروبا من "الاستقلال الاستراتيجي". وإن مثل هذه الاضطرابات لا يجب جعلها تهدد الأمن الأوروبي فحسب، ولكن جعلها “قابلة للسيطرة" أيضا، بحيث يمكن التدخل بشكل مبرر والسيطرة على الشؤون الأوروبية. ومنذ وصول بايدن إلى السلطة لأكثر من عام، يتحقق هدف الولايات المتحدة في قمع روسيا والتدخل في الشؤون الأمنية الأوروبية تدريجياً من خلال العمليات التالية. أولاً، استخدام وسائل الإعلام الغربية للمبالغة فيما يسمى " نظرية التهديد الروسي"، مثل تضخيم أكاذيب "الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا"، بدعوى أن الجيش الروسي سيشن حربًا عدوانية ضد أوكرانيا في 16 فبراير الجاري. ثانياً، تصريحات متكررة موجهة للحكومة الأوكرانية في مناسبات دبلوماسية كبرى، مفادها أن التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة لن يقف مكتوف الأيدي، والولايات المتحدة هي " القديس الراعي" للأمن القومي لأوكرانيا، في محاولة لربط أوكرانيا بإحكام بـ " عربة الحرب" الأمريكية الروسية. ثالثاً، انتهاز الفرصة لتقديم وبيع عدد كبير من الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا في الظل الخوف الذي يثيره "الغزو الروسي لأوكرانيا". منذ بداية هذا العام، زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بمئات الأطنان من الأسلحة والمعدات، والتي من المرجح أن تعزز بشكل مباشر الجولة الحالية من الصراع في شرق أوكرانيا. رابعاً، سيختار الاتحاد الأوروبي جانبًا دون تردد بمجرد تصاعد الوضع ودخول روسيا وأوكرانيا في الحرب، ويصبح "بيدقًا" استراتيجيًا في لعبة المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا. وبحلول ذلك الوقت، ستعود الأموال الأوروبية إلى الولايات المتحدة بسرعة. نتيجة لذلك، سيتم تعزيز هيمنة الدولار الأمريكي بشكل أكبر، وسيتم إحباط كل من اليورو والاستقلال الاستراتيجي الأوروبي. وبالرغم من أن تصعيد الأزمة الروسية الأوكرانية له أسبابه الخاصة، فمن المرجح أن تصبح أوكرانيا المحاصرة بين القوتين الرئيسيتين للولايات المتحدة وروسيا "ضحايا اللعب". ويبدو التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة قوياً، لكن، بخلاف الولايات المتحدة يصعب على الاتحاد الأوروبي توفر ضمانات أمنية. وعلى الرغم من أن القوة الوطنية لروسيا محدودة، لكن قوتها العسكرية وتداعيات حادثة القرم في 2014 أثارت قلق الحكومة الأوكرانية أيضًا. وفي ظاهر الأمر، فإن أفضل خيار دبلوماسي للحكومة الأوكرانية هو الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي من أجل الحصول على حماية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، سيسمح الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي بوصول القوات الغربية إلى محيط روسيا مباشرة، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي ويدوس بشكل خطير على صافي أرباح روسيا، وهو أمر الغير مقبول نهائيا من قبل الأخيرة. لذلك، تأمل الحكومة الأوكرانية في أن يتمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والقوى الكبرى مثل ألمانيا وتركيا من بذل جهود مشتركة لتخفيف التوتر بين روسيا وأوكرانيا وتقديم "ضمانات أمنية"، وهو ما يعكس حقيقة أنها لا تريد الاعتماد على الولايات المتحدة فقط. ومع ذلك، فإن المجتمع الدولي لن يتمكن من حل الخلافات، وتعزيز الوحدة والتعاون، ووقف الحروب والصراعات بشكل فعال، وتحقيق عالم أكثر سلامًا واستقرارًا إلا من خلال السعي إلى تعددية حقيقية.
مشاركة :