في عام ١٩٩٣ نشر صموئيل هانتنغتون مقالته الشهيرة حول صدام الحضارات والتي فصّلها في كتاب نشره في العام ١٩٩٦، ذاع صيته وترجم إلى لغات عالمية عديدة وفتح نقاشاً على مستوى العالم كله، في أوساط المثقفين والأكاديميين والسياسيين. قسّم هانتنغتون العالم إلى تسع حضارات وتوقع حصول صدام، في المستقبل، ما بين تحالف الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية من جهة والحضارة الغربية من الجهة المقابلة. وأطروحة هانتنغتون تغذت من أفكار مستشرقين معادين للإسلام، من أمثال برنار لويس الذي أعلن منذ عام ١٩٥٧ بأن الإسلام يناقض القيم الغربية، ومن مرحلة ما بعد الشيوعية حيث كانت الولايات المتحدة بصدد البحث عن عدو عالمي يبرر لها الاستمرار في إنفاق عسكري متزايد وسياسات هجومية في العالم. ومن يعود إلى أرشيف مراكز العصف الفكري في الولايات المتحدة، في تسعينات القرن المنصرم، سوف يلاحظ تركيزها على الإسلام السياسي كتهديد يحل محل التهديد الشيوعي الذي زال بزوال الاتحاد السوفييتي. لم يكن من قبيل المصادفة أن تتفق هذه المراكز والتي كان يديرها محافظون جدد وموالون لإسرائيل على صناعة وفبركة عدو جديد كانت واشنطن متحالفة معه حتى الأمس القريب ضد الشيوعية الملحدة في العالم وضد الاتحاد السوفييتي الذي كان يحتل أفغانستان. وفي ١١ سبتمبر/أيلول ٢٠٠١ حدث ما حدث فسقط على المحافظين الجدد الذين أضحوا في مراكز القرار الأمريكي، كالالنعمة من السماء، على حد تعبير ستانلي هوفمان، كي يشرعوا في تطبيق مخططاتهم الموضوعة سلفاً والهادفة إلى السيطرة على النظام العالمي من خلال منطقة الشرق الأوسط الغنية بالمواد والممرات والمواقع الاستراتيجية. كتاباتهم المنشورة تقول ذلك وسياساتهم التي مارسوها تتفق تماماً مع ما كانوا يعلنون فضلاً عما كانوا يضمرون وقد بات معروفاً. بعد تفجيرات سبتمبر/أيلول عادت أطروحة صدام الحضارات إلى الرواج تغذيها تصريحات الرئيس بوش المتكررة حول الحرب الصليبية ومن ليس معنا فهو مع الإرهاب والحضارة الغربية المهددة والتي رافقتها عمليات عسكرية ضد ملتحين ومعممين إسلاميين ساهمت في الترويج لصورة في المخيال الغربي حول وجود عدو للحضارة الغربية هو الإسلام السياسي الأصولي والإرهابي. وطيلة عهد بوش سادت أجواء صدام الحضارات وتحديداً بين الإسلام والولايات المتحدة التي كانت في موقف المعتدي الغاشم لاسيما بعد كل ما رافق غزوها للعراق وما تبعه من مواقف ومشاهد تعذيب واحتلال وكل ما ينافي القيم التي تتشدق بها. بعدها وصل الرئيس أوباما ليقطع مع سياسات بوش ويمد يديه إلى العالمين الإسلامي والعربي في إطار ما سمي حوار الحضارات والذي كان قد انطلق منذ عام ٢٠٠٠ بمبادرة من الرئيس الإصلاحي الإيراني محمد خاتمي قبل أن تتبناه الأمم المتحدة وتشجع عليه. لكن الفشل الذريع الذي مني به أوباما، بسبب عجزه عن لي ذراع نتنياهو في مسألة الاستيطان والاحتلال وغير ذلك، ثم وصول الربيع العربي وتداعياته.. الخ، أعاد الأمور إلى المربع الأول لاسيما مع عودة الإسلام السياسي بقوة إلى الساحة. وهكذا ما كاد يخبو نجم تنظيم القاعدة لاسيما بعد مقتل أسامة بن لادن في عام ٢٠١٢ حتى بدأ يسطع نجم تنظيمات أكثر وحشية وإرهاباً ولدت من رحم الحرب السورية ونتائج الاحتلال الأمريكي للعراق. وبصورة غير متوقعة خطف تنظيم داعش الأضواء العالمية على بشاعة ممارساته منذ يونيو/حزيران ٢٠١٤ مع احتلاله المفاجىء للبصرة وتمدده على مسافة جغرافية واسعة مع موارد نفطية ومالية معتبرة وخزان بشري انتحاري جاهز للقتل بأي ثمن. عادت أطروحة صدام الحضارات إلى الرواج مع مشاهد العنف الداعشي المقزز ولاسيما مع العمليات الإرهابية في أوروبا (العملية ضد مجلة شارلي-إيبدو في باريس في يناير/كانون الثاني الماضي تسببت بتظاهرة عالمية عارمة في باريس قادها الرئيس هولاند وشارك فيها نتنياهو...) حيث عاد النقاش حول الإسلام وقدرته على التكيف مع الديمقراطية الغربية. وظهرت كتابات غريبة مثل كتاب الفرنسي اريك زمور الانتحار الفرنسي أو ميشال هولبيك حول الخضوع (يقصد للمسلمين) والتظاهرات في بعض المدن الأوروبية ضد المهاجرين المسلمين (مع موجات الهجرة الأخيرة) وإعلانات الرئيس الهنغاري وبعض زعماء أوروبا الوسطى ورئيس الوزراء البولوني وغيرهم ضد أسلمة أوروبا وضد استقبال المهاجرين واللاجئين المسلمين تحديداً الخ. لتخلق جواً من صدام بين الإسلام والغرب. اليمين الأوروبي المتطرف، المؤمن بأطروحة هانتنغتون، سعيد بهذه الأجواء فهي التي تدعمه انتخابياً وتزيد من شعبيته ورواج أفكاره. وقد سقطت عليه تفجيرات ١٣ نوفمبر/تشرين الثاني الأخيرة كنعمة، كما كانت عليه تفجيرات ١١ سبتمبر/أيلول للمحافظين الجدد الأمريكيين. لقد جاء الإرهاب الداعشي ليصب زيتاً على نار الإسلاموفوبيا في الغرب وبالتالي فإن أولى ضحاياه هم المسلمون المسالمون وحتى أولئك الملتزمون الذين يناهضون العنف والإرهاب، لكنهم يتمسكون بالتقليد والسنة النبوية الشريفة من حيث المأكل والمظهر والممارسات العبادية التي لم يعد يتردد بالسخرية منها في العلن قادة اليمين المتطرف (مارين لوبان سخرت علناً من صلاة الجمعة). رغم كل شيء فما نشهده ليس البتة حرب أديان أو صدام حضارات. فداعش لا يمثل حضارة بل ثقافة أقلوية هي ثقافة الموت والرعب والظلامية، والإسلام دين النور والتسامح والمحبة. وإذا كان ثمة من أعداء للدين الحنيف فإن داعش هو حليفهم وصاحبهم بل صنيعتهم وطفلهم المدلل. ليشرح لنا أحد هذه السياسة الأمريكية حيال داعش وإعلان أوباما الأخير، بعد تفجيرات باريس، الذي يطمئن داعش بنفي نية التدخل البري ضده وكأن أحداً طلب منه ذلك، لم يسبق لأحد في التاريخ أن أساء للإسلام وأن قدم مثل هذه الخدمات لإسرائيل مثلما فعل داعش. لا صدام حضارات، فداعش ألبّ ضده روسيا (الأرثوذوكسية) والصين (الكونفوشيوسية) وأوروبا (المسيحية) كما العالم الإسلامي (التفجيرات في بيروت وفي العراق وسوريا واليمن وغيرهم ضد مسلمين ومصلين في مساجد..) في وقت واحد. الداعشيون ليسوا من بين المسلمين الأنقى والأكثر إيماناً وطهراً والتزاماً، إنهم أناس جاءوا من عوالم متنوعة ملتبسة لينزلقوا، في ظروف غامضة، إلى التشدد بعد أن تعرضوا لعمليات غسل أدمغة. فلو كان لهم أدمغة لما تم غسلها بهذه الطريقة والسرعة. الانتحاريون معظمهم في عمر الشباب ولا يملكون ثقافة ولديهم مشاكل نفسية وإضبارات جرمية. معظمهم كان يسعى وراء رغبات لم تتحقق فانحرف إلى الجهاد الذي يحوله من إنسان مهمل محتقر وهامشي إلى بطل موعود بالحوريات في الجنة. تحليل هذه الظاهرة يقع على عاتق علم النفس والاجتماع أكثر منه علم السياسة والعلاقات الدولية وما يتضمن من أطروحات مثل صراع الأديان وصدام الحضارات.
مشاركة :