كما يشهد الحضور المكثّف للويز غلوك في أنطولوجيّات الشّعر الأميركي للقرنين العشرين والحادي والعشرين، فقد أصبحت اليوم وجهاً مألوفاً ولافتاً في المشهد الشّعري الأميركيّ المعاصر. وقد وفّقت هذه الشّاعرة في إثبات حضورها في ذلك المشهد منذ 1968 بديوان «البكر»، ثمّ ديوانها الثّالث «الشّكل المنحدر» (سنة 1980) الذي أثبت بنصاعة كلماته جدارة غلوك في مجال الكتابة الشّعريّة. وقد حازت في بلدها سنة 2014 «الجائزة الوطنيّة للشّعر» عن ديوان «اللّيلة الصّادقة والخيّرة»، هذا فضلاً عن جوائز كثيرة أخرى أسندت لها من قبل مؤسّسات ثقافيّة ودور نشر عريقة، أميركيّة وعالميّة، مثل جائزة بوليتزر عن ديوان «السّوسن البرّي» الصّادر سنة 1993 وجائزة بولينغان. وتخترق كتابة لويز غلوك الشّعريّة نزعة أنثويّة، وإن كانت هذه الشّاعرة تميل إلى مقاومتها. ففي قصائدها، نلمس حضوراً لافتاً لموضوعات تهمّ الأنثى، ولكن من دون أن تذهب الشّاعرة حدّ الانخراط في حركات مناصرة المرأة والذّود عن حقّها في المساواة. ولم يكن التّلميح المتواتر إلى إيميلي ديكنسون، في محاوراتها كما في شعرها، ليعكس موقفاً بريئاً من شاعرة مدينة «أميرست»، بل إنّه كشف عن مدى تأثير هذه الأخيرة في غلوك، التي كبرت هي الأخرى في «لونغ آيلند». فكلتا الشّاعرتين تشتركان في تمثّل متشظٍّ للأنا، كما في الإفصاح عن تجربة متجذّرة في ذاتيّة متفرّدة، وبأصالة صوت يأبى الانتماء إلى أيّ جنس محدّد من الأجناس الشّعريّة. وفضلاً عن ذلك، فإنّ شعريّة غلوك تستكشف الجوانب الحميميّة في المواضيع التي تطرقها، متحاشية توظيف الأنا بشكل متماثل، ولذا تختلف دلالات تلك الأنا من ديوان إلى آخر، بل من قصيد إلى آخر، ويبرز ذلك خاصّة في ديوان «السّوسن البريّ». كما ترد الأنا الغنائيّة أيضاً في شعرها على نحو إشكاليّ، مفردة ومتعدّدة في آن، كما في مرجعيّتها، التي تبدو متغيّرة وملتبسة. وحدة شعرية لقد صدر ديوان «السّوسن البريّ» عن دار النّشر «إيكّو براسّ» سنة 1992، فترجم إلى الإسبانيّة (كما ترجمت دواوين «آرارات» و«الأزمنة السّبعة» و«أفيرنو»، وبالإيطاليّة بلغة ثنائيّة، ثمّ بالألمانيّة)، ومع ذلك لم يترجم إلى الفرنسيّة إلى غاية اليوم، ممّا يعني أنّ القصائد التي سترد هنا لا تعدو كونها ترجمات إلى الفرنسية مبثوثة هنا وهناك في مجلاّت ودوريّات مختصّة. ولعلّ الخاصيّة الأكثر لفتاً للانتباه في ديوان «السّوسن البريّ» هي بلوغ صيغة الكتابة الشّعريّة عند غلوك درجة الاكتمال، وتبلور أجزاء هذا الدّيوان على شكل وحدة متكاملة. فليس ثمّة من قصيد قد يقرأ بمعزل عن القصيد الآخر، لأنّ كلّ قصيد منها يكاد يكون رجع صدى لبقيّة القصائد. وقد جاءت تلك القصائد على شكل مواضيع متعدّدة النّبرات تبدو وكأنّها قد انبثقت من بستان مونق.. بهيج. فهندسة النصّ كما بنيته، تشي بكتابة مستطرفة ومبتكرة، ففي الدّيوان تخلي الشّخصيّات المتخيّلة المكان لأزاهير ونباتات بستان أليف، أو ما ترى فيه غلوك حديقة الشّاعر البستانيّ. ولو قمنا بمساءلة نباتات الطّماطم وأدوات البستنة المنزليّة وآدم زوج الشّاعرة، فلن يكون ذلك البستان بصورة كليّة بستان الخلق، وإنّما بستاناً يلمح له. لعبة الأنا المتعدّدة لقد آثرت عبر هذه التّرجمات أن أضع في الصّدارة طبيعة النَّفَس السّاري في شعر غلوك، متجنّباً الصّيغ الجامدة والميل إلى تثبيت المعنى، بدءاً بلعبة الأنا المتعدّدة التي تغدو عبر الأبيات الشّعريّة والقصائد موصولة بشخصيّات عديدة ومختلفة. ثمّ إنّني آثرت ترجمة ما هو مثير في هذا الشّعر، بدلاً ممّا هو متحرّك فيه أو ما هو نابض، وملامسة ما يتخلّل ذلك النّبض من تأرجح وارتجاف، حفاظاً على القواعد التي تنتظم شاعريّة أعمال غلوك. السّوسن البرّي عند منتهى وجعي كانت ثمّة سبيل سالكة. لتنصت إليَّ: ما تدعوه أنت موتاً، أنا أستحضره. في الأعلى، جلبة وهمس أغصان الصّنوبر. ثمّ.. لا شيء، غير الشّمس الباهتة التي ترنّحت على السّطح الذّابل. إنّه لأمر مرعب أن نظلّ على قيد الحياة مثَلُنا مثل إحساس تمّت مواراته في تربة رماديّة كالحة. بعدها.. توقّف كلّ شيء: ما كنت تخشاه من أن تكون روحاً وعاجزاً عن الإفصاح، لقد توقّف ذلك بشكل مباغت، فيما الأرض القاسية تميل إلى التقبّض. وما كنت تعتقد أنّها طيور متقافزة على الشّجيرات القصيرة. أنت لا تتذكّر العبور من الحياة الأخرى أقول لك إنّه بإمكاني التحدّث إليك من جديد: كلّ ما يرشح من عالم النّسيان يعود كيما يظفر بمنّة النّطق: من قرارة ذاتي تنبثق نافورة مهيبة، ظلالٌ وأزرقٌ داكن على ماء بحريّ لازورديّ. تغريدة كقلب مصون، الزّهرة المحمرّة احمرار الدمّ أو الوردة البريّة، غدت على وشك التفتّح على الغصن الأكثر انخفاضاً، يسندها حشد من أعشاش أجمة عظيمة: إنّها تزهر في الظلّ.. تلك الخلفيّة الأبديّة للقلب! فيما كان مآل الأزهار الأكثر علوّاً الذّبول أو التعفّن، وكيما تبقى، فإنّ البلوى تعمّق بسهولة لونها. ولكنّ جون لا يرى ذلك. إنّه يعتقد أنّه لو لم يتعلّق الأمر بقصيد، وإنّما ببستان حقيقيّ، حينها لا ينبغي للوردة الحمراء أن تشبه شيئاً آخر، ولا أيّ زهرة أخرى، و لا قلباً ظليلاً ينبض عند سطح الأرض، كستنائيَّ اللّون تارة، وأرجوانيّاً تارة أخرى. الأعشاب المتهيّجة شيء ما يأتي هذا العالم دون دعوة من أحد فيثير البلبلة -إذا كنت تكنّ نحوي كلّ هذا الحقد فلا تنزعج! وامنحني اسماً! فهل تكون بلغتك بحاجة إلى شتيمة أخرى أسلوب آخر في مؤاخذة القوم على كلّ شيء- كما نعلم ذلك أنا وأنت نحن بحاجة لعدوّ أوحد! أنا لست العدوّ وإنّما مراوغة تجعلك تبتعد عمّا يدور هنا، حتّى داخل هذا الفراش، مثال صغير عن الإخفاق. هنا، وفي كلّ آن تقريباً إحدى أزهارك الأثيرة تموت.. ولن تشعر بالسّكينة ما لم تراوغ العقل فما يمكث، وما سيظلّ منتصباً هو الشّغف الذي بداخلك لم يكن من المفترض أن نكون مخلّدين في عالم الواقع. ولكن لماذا الإقرار بأنّك ستكون قادراً على فعل ما كنت قد فعلته من قبل، الحزن والعتاب، مقترنيْن على الدّوام. لست بحاجة إلى مباركتك كيما أظلّ على قيد الحياة. لقد كنت قبلاً هنا قبل أن تكون أنت، بل قبل أن تكون قد زرعت البستان. وأظلّ هنا، حين لن تتبقّى غير الشّمس والقمر،
مشاركة :