المجد للشعر.. المجد للغة الحياة | واسيني الأعرج

  • 11/26/2015
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

أن تقرأ الشعر معناه بالضرورة أن تحس بالحياة في قمة نبضها، وأن شيئًا غامضًا فيها ينصاع لنا بلا خوف ولا أسئلة. هذا ما أحسسته وأنا أقرأ ديوان الشاعر السعودي المميز إبراهيم الجريفاني: أمشاج بشرية، الذي يختلط فيه سؤال الحياة الغامض وأنين الأرواح وسلطان اللغة، فينشأ فجأة وجود يقذف بنا بعيدًا عن هذه الأرض المرتبكة، وجود سيّدته اللغة التي تحاول أن تقول ما لا تستطيع الحياة قوله، ولا حتى الإفصاح عنه، تتماهى داخل ديوان أمشاج بشرية كل المستحيلات التي تُنشئها الحياة بكل تعقداتها، والخبرة الأدبية، ويصنعها أيضًا ضعف الإنسان الأبدي أمام وجود لا يتوقف عن إدهاشنا في كل ثانية، حتى في لحظاته الأكثر قسوة المرتبطة بالفقدان والعزلة والخيبة، من هنا يبدو عالم الشاعر الذي اختار لنصوصه البعد الإنساني، مبتعدًا عن تسطيحات الأيديولوجيات، أكثر انفتاحًا على عوالم الإنسان بمعناه الأكثر اتساعًا، وبكل ما يُحيط به من تحوّلات عاصفة التي لا ترحم هشاشة الإنسان، أحيانًا تغير من دواخله وأعماقه، وتجعل علاقته بالحياة أكثر شفافية وشعرية. إن تجربة إبراهيم الجريفاني في غناها الإنساني وغنائيتها تقول هذا من خلال لغتها الحية وصورها التي تستقر فينا بسرعة، وتستبطن الحياة مثلما يفعل الطبيب في تعامله مع دواخل الإنسان لفهمها وتلمسها عن قرب والاشتراك مع المعني في سلسلة من الأحاسيس الخاصة جدًا لهذا كله، يظل للشعر في النهاية حساسية خاصة تجاه عالم يحيط بنا لدرجة أن يسيّجنا بسحره وغموضه وبهائه أيضًا، يمدنا في رحلته القلقة، بالقدرة على استيعاب خصوصياتنا بشكل آخر، يمنح الكائنات اللغوية بسخاء كبير، المزيد من دفء الكتابة، من خلال التوغل عميقًا في شجنه القاسي وفي قيمه الخفية والظاهرة، أسطورية كانت أو دينية، يفتح إبراهيم أمام الشعر، من خلال هذه الرؤية، سبلاً أخرى توفر له قابليته الإنسانية وتجلياتها، الشعر قوة غير مرئية لكنها موجودة في أي منّا تحت ركام حياة يومية قاسية، الفنان المميز هو من يستطيع أن يكنس كل الغبار الذي يمنعنا من رؤية عالم شفّاف من الجمال والدهشة، مقتل الشعر الذي يتوخى الإنسانية، في محليته ودائرته الضيقة، أي إدراجه فقط في حدود الذات التي كثيرًا ما تكون منكسرة ومهزومة، فتح الشعر نحو الأبدي واللامنتهي هو ما يصنع ديمومته وخلوده، الشاعر إبراهيم الجريفاني يضعنا في ديوانه الجديد: أمشاج بشرية أمام هذه الأسئلة التي تخترق بعنف دواخلنا، يطوح بنا داخل شبكة اللغة ويدفع بنا نحو مواجهة قدر نكتشف بعد نهاية القراءة أنه ليس شيئًا آخر سوى قدر الشعر، فقد اشتغل على المحمول المتنوع الذي يتأسس على الاستعارة الحية والغنية والسخية، يستعير بلا تردد، إمكانات جديدة للتأويل اللغوي والغنى الداخلي الذي يقفز باللغة نحو مساحات الروح الواسعة والغامضة أيضًا. وكثيرًا ما تتوغل هذه المحمولات الفنية، في عمق الإنسان إلى درجة الالتباس بالطقس الديني، وحتى بداية الخلق ومأساة الإنسان في مواجهة معضلة الموت والخلود المستحيل، نشعر بذلك منذ العتبات الأولى، من العنوان: أمشاج بشرية، التي استعيرت من القرآن الكريم سورة الإنسان، آية2: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ربما كان الحس الوجودي العميق، والفقدان الأبدي، والحنين الساكن فينا، هي أهم مكونات هذا الديوان، الذي يحرك ضعفنا القوي تجاه الحياة، ويدعونا إلى المزيد من التواضع لدرجة أن دفعني إلى استعادة الصرخة القديمة: المجد للشعر، وحده يطفئ عطشنا للاستمرار في الأبدية التي لا قوة تنفيها أو تقصيها وجوديً، لا يمنع هذا أبدًا من أن يحضر الموت بكل سلطانه وقسوته، في ديوان أمشاج بشرية، لكن ترنيمة الحياة تنتصر أبدًا على أناشيد الحزن والظلمة، فقدان الأخ أو العزيز، أو الحبيب، أو القريب، ليس إلا جزءًا صغيرًا من دورة حياة تمضي وتعود مثل موجة، كلما ظننا أنها تكسرت نهائيًا، وانتفت، عادت من جديد بكل عنفوانها وقوتها، في حركة أبدية اسمها الحياة، لا قوة توقف استمرارها.

مشاركة :