قبل أسابيع أعلنت الحكومة الصينية إلغاء سياسة الطفل الواحد ذات الخمسة وثلاثين عاماً من التطبيق، والتي تمنع على الأسر الصينية إنجاب أكثر من طفل، وأعلنت بدلاً منها سياسة طفلين لكل أسرة. كانت الصين كالعديد من الدول النامية- إن لم يكن جميعها- تعاني زيادات أو انفجارات سكانية لا تتماشى مع معدلات النمو المحققة، ما دفع حكومات الصين وحزبها الشيوعي الحاكم إلى الحديث عن ضرورة تنظيم الأسرة، لكن الصين تظل حالة خاصة جداً في هذا الإطار، تحولت خلال العقود الستة الماضية من نقيض إلى نقيض، وتتبع التطور الزمني لتلك السياسة يستحق المتابعة والدراسة. ففي عهد ماو كانت السياسة العكسية هي المتبعة بتشجيع الإنجاب قدر الإمكان ما، أدى لانتشار الفقر والجوع، لذلك بدأت الحكومة الصينية في عام 1953 التفكير في الحد من المواليد، وخططت لوضع قانون يحدد عدد أطفال كل أسرة، وقانون آخر يسمح بالإجهاض، لكن لم يدخل هذا التخطيط حيز التنفيذ حيث لم تتحول الخطط المذكورة لسياسات فعلية، حتى جاء عام 1970 عندما تخطى عدد سكان الصين 800 مليون نسمة، حينها وجدت الصين أنّ عليها اتخاذ إجراءات محددة وحاسمة لوقف الزحف السكاني في الصين، وبالفعل في عام 1975 أعلنت الحكومة الصينية سياستها لتشجيع الأسر على إنجاب طفل أو اثنين على الأكثر، ومع قدوم عام 1979 وضعت الحكومة سياستها الأشهر سياسة الطفل الواحد عدلت معها قانون الأحوال الشخصية وجرمت إنجاب طفلين أو أكثر. الغريب أن الحكومة الصينية راجعت تلك السياسة عدة مرات بالفعل، فمنذ عام 1984 سمحت للأبوين الذين ليس لديهما أشقاء في إنجاب طفل ثانٍ، وكذلك سكان بعض المناطق الريفية، تلى ذلك تعديل آخر في عام 2001، بإقرار غرامات على الأسر التي تنجب أكثر من طفل، ما يعني ضمنياً السماح بالإنجاب مقابل تسديد مبلغ من المال، ثم في عام 2013 سمحت بطفل ثانٍ إذا كان أحد الأبوين ليس لديه أشقاء، إلى أن أتى التطور الأخير قبل أيام الذي يلغي سياسة الطفل الواحد على مستوى الشعب الصيني ككل ويقر بدلاً منها سياسة الطفلين لكل أسرة صينية. والآن، يثير هذا التحول في التوجه الحكومي تساؤلاً حول هل فشلت الصين في تطبيق سياسة الطفل الواحد ما جعلها تتخلى عنها؟ والإجابة عن هذا السؤال لا. بل حققت الحكومة الصينية هدفها من السياسة، فوصل عدد المواليد الذي تم توفيره إن جاز التعبير خلال مدة تطبيق سياسة الطفل الواحد إلى نحو 400 مليون نسمة، كانوا سيضافون للقوة العاملة الصينية الآن، وهو نجاح من وجهة نظر الحكومة بكل تأكيد، بغض النظر عن التكلفة الاجتماعية الباهظة لتطبيق تلك السياسة، يكفي أن نشير في الحديث عن الكلفة الاجتماعية إلى أن الطفل الواحد أجبرت الصينيات على إجراء عمليات إجهاض وصلت إلى 330 مليون عملية إجهاض. بخلاف 20 مليون عملية إجهاض اختياري لجنين بنت. كما أن الصرامة في تنفيذ السياسة لأقصى حد حمل معه آثاراً نفسية واجتماعية ضخمة في قطاع كبير من الشعب الصيني، حيث كان يتم أخذ الأطفال الثواني قسراً على يد الحكومة وإيداعهم في دور الرعاية، حيث يصبح هؤلاء متاحين للتبني مقابل 3000 دولار للطفل الواحد، كما تُجبر أي سيدة يتم الكشف عليها على الإجهاض إذا كانت أماً لطفل بالفعل، حتى إن كلفها هذا حياتها. أثرت تلك السياسة أيضاً في التطور الطبيعي للهرم السكاني في الصين، والآن بدأت الصين تنتبه لذلك. فنجد أنه في بعض المدن الصينية تزيد نسبة الإناث على الذكور بنحو 20%. وبالتالي تقبل السيدات على الإجهاض إذا علمت أنها ستنجب بنتاً لأن فرصتها في إنجاب طفل هي فرصة واحدة فقط، ووصل إجمالي عمليات الإجهاض لهذا الغرض إلى نحو 30 مليون عملية، وفقاً لبعض التقارير، أي أن تلك السياسة أدت إلى انتشار سياسات التبني وبيع الأطفال في المجتمع الصيني. في ضوء ذلك، يعد العدول عن السياسة خطوة إيجابية من قبل الحكومة، لكن الواقع أن هذا التغيير في السياسات لم يأت تفادياً للآثار الاجتماعية وإنما نتيجة لحسابات اقتصادية أجرتها الحكومة الصينية ووجدت أن الاستمرار في فرض قيد الطفل الواحد سوف يكون له ضريبة اقتصادية عالية للغاية. من أهم تلك الآثار، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن الصين ستواجه عجزاً في العمالة في عام 2030، إذ ستحتاج الصين حينها إلى 100 مليون عامل. وإن كان لدى الدول التي سبقت الصين تنموياً كاليابان تجارب مماثلة لجأت فيها لسد العجز من خلال استقدام العمالة الصينية، وحيث اعتادت الصين تصدير عمالتها لكل دول العالم، فإذا أصبحت الصين في حاجة لسد العجز في العمالة فمن أين تستورد؟ ربما من منافستها الهند! خاصة أن هناك بعض تقارير الأمم المتحدة الخاصة بالسكان حول العالم وتشير إلى أنه في عام 2022 ستتخلى الصين عن المركز الأول كأكبر قوة سكانية لصالح الهند. ما دفع الحكومة الصينية إلى إنهاء عصر الطفل الواحد أيضاً أنه مع حلول عام 2035 ستكون نسبة السكان في الصين ممن هم فوق سن الستين نحو 30%. وقد سبق أن أخذت الصين إجراء احترازياً برفعها سن الخدمة الحكومية الذي ظل لسنوات طوال عند 60 سنة للرجال و50 سنة للسيدات في بعض الوظائف إلى 65 عاماً. كما أنه وحتى عام 2009، كان 5% فقط من القوة العاملة الصينية يتمتعون بتغطية تأمينية اجتماعياً، ارتفعت تلك النسبة إلى 55% مع حلول سنة 2012، وهو إجراء سعت الصين من خلاله إلى تحسين أوضاع عمالتها واجتذابهم للعمل في الصين وليس خارجها. من هنا، تبدو السياسة الجديدة مهمة لإنقاذ الهرم السكاني الصيني في المديين المتوسط والطويل، أو هي محولة لذلك. ومن المتوقع أن يستفيد من السياسة الجديدة وفقاً لإحصاءات عام 2015 نحو 90 مليون أسرة، أي زيادة سكانية إضافية قدرها 90 مليون نسمة على المدى القصير. لكن هل سيكون الإقبال على التطبيق كبيراً بعد سنوات من تجريم الطفل الثاني؟ على مستوى الشركات، وجدت السياسة الجديدة صداها مباشرة بين الشركات المنتجة لمستلزمات الأطفال التي أعلنت اعتزامها طرح منتجات جديدة وبكميات في السوق الصينية تلبية للطلب المتوقع زيادته على مستوى الدولة في ضوء التشريع الجديد. أما على مستوى الأفراد فالوضع قد يختلف. فالواقع أن نسبة الإقبال لا تزال محل شكوك، خاصة أنه في عام 2013 عندما خففت الحكومة الصينية قيد الطفل الواحد جزئياً كما ذكرنا، وكان عدد المستفيدين من تلك السياسة 11 مليون أسرة لم يقبل على التطبيق والتمتع بهذا الإعفاء إلا مليون ونصف أسرة بما يساوي نسبة 10% تقريباً فقط. لقد تغيرت ملامح المجتمع الصيني الآن اقتصادياً واجتماعياً عما كانت عليه قبل 35 عاماً، عندما شُرعت الطفل الواحد. فقد وصل معدل النمو السكاني في الصين إلى 1.5% فقط وهو المعدل الأقل بين الدول النامية ويقترب إلى حد كبير من معدلات المجتمعات الغربية المتقدمة. عدد سكان الحضر في الصين اليوم يصل إلى 750 مليون نسمة تغيرت أنماط حياتهم التي تتجه نحو مزيد من الفردية والاستهلاكية على حساب قيم العائلة الكبيرة التقليدية. والصين تأتي في المركز الأول للعام الثالث على التوالي كعدد سياح في العالم، ويأتون في المرتبة الأولى بعدد تخطى حاجز ال100 مليون سائح في عام 2014، حيث وصل عدد السياح إلى 109 ملايين سائح، يصل إجمالي إنفاقهم إلى 165 مليار دولار بمعدل زيادة سنوية يصل إلى 28%. الأسواق الحرة في الدول المتقدمة أصبحت مكتظة بالسياح الصينيين الذين يصطفون في طوابير تصل إلى عشرات الأمتار انتظاراً للتبضع، وتشير خبرات الدول الأخرى إلى أنه عند هذا المستوى الاقتصادي يصبح الإقبال على تكوين أسر كبيرة ليس بالكبير. هل تأخرت الصين في إلغاء الطفل الواحد؟ نحتاج بعض الوقت لمراقبة مدى إقبال الصينيين على السياسة الجديدة، لكن المؤشرات الأولية، والأوضاع الجديدة التي أضحى عليها الشعب الصيني، خاصة في المدن، وهم يشكلون معظم السكان حاليا، لا تبشر بإقبال كبير على إنجاب الطفل الثاني، وبالتالي فربما تجد الحكومة الصينية مستقبلاً أنها في حاجة لفرض حوافز تشجيعية للأسر لحثهم على الإنجاب، بعد أن كانت تخطف الأطفال من أهاليهم وتودعهم في دور الرعاية لمخالفتهم السياسة الحديدية لتنظيم الأسرة في الصين سياسة الطفل الواحد. أو ربما تقدم الصين نموذجاً جديداً في هذا الشأن كما عهدناها في مسيرتها التنموية بحيث يجمع الصينيون خلال السنوات المقبلة بين النمط الغربي في المعيشة والاستهلاك والنمط الآسيوي في الحفاظ على قيمة بناء العائلة، ما سينقذ الحكومة من مأزق بحث سد عجز العمالة مستقبلا من دول أخرى. د. نيللي كمال الأمير nkamalm@yahoo.com اعتمدت الكاتبة على بعض المصادر المنشورة على شبكة المعلومات الدولية وذلك على النحو التالي: Chinese couples urged to have more children at: theguardian.com Social Security with Chinese Characteristics at: theeconomist.com Judging Chinas One-Child Policy at: newyroker.com
مشاركة :