بعد أن اعترفت روسيا، دبلوماسيا يوم 21 فبراير 2022. باستقلال دولتين انفصاليتين عن أوكرانيا، أمر الرئيس، «فلاديمير بوتين»، وحدات الجيش بدخول هذه الأراضي تحت غطاء «حفظ السلام». ومع ذلك، بالنسبة إلى أوكرانيا وحلفائها الغربيين، تظل هذه الأراضي أوكرانية بموجب القانون الدولي، وبالتالي، فإن تحرك القوات الروسية فيها يشكل انتهاكًا لسيادة كييف الإقليمية. وردا على ذلك، تم فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، وتحديدا من واشنطن، ولندن وحلفائهما الأوروبيين، الأمر الذي أدى إلى تأثر الاقتصاد العالمي، وارتفاع أسعار النفط إلى ما يقرب من 100 دولار للبرميل، في حين أصبح مستقبل مشاركة روسيا في سوق الطاقة العالمي غير واضح الآن. ونظرًا إلى أن «روسيا» هي ثاني أكبر مصدر للنفط في العالم، وأكبر مصدر للغاز الطبيعي أيضا، فمن الطبيعي أن تؤثر الإجراءات التي اتخذتها في الاقتصاد العالمي. وفي صباح اليوم التالي لإعلانات «بوتين»، قفزت أسعار النفط إلى 97.76 دولارًا لبرميل «خام برنت»، وهو أعلى رقم لها منذ سبع سنوات. وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، سعرًا جديدًا يقدر بـ99.06 دولارًا للبرميل، وبذلك يقارب السعر الـ«100 دولار للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014». وتأتي هذه الزيادات في ظل المشكلات الحالية المتعلقة بالعرض والطلب، فضلاً عن حالة عدم اليقين بسبب التوترات المستمرة بين روسيا وأوكرانيا. وبالفعل، قفز سعر «خام برنت»، بمقدار 2.74 دولارًا إلى 96.28 دولارًا، يوم 21 فبراير 2022 وحده. وعلى المدى القصير، امتد التأثير في سوق الطاقة العالمي إلى ما بعد «خام برنت»، حيث ارتفع سعر -البديل الأمريكي- «خام غرب تكساس الوسيط»، أيضًا، وبلغ 93.86 دولارًا مساء يوم 21 فبراير 2022. وإلى جانب هذه الزيادات في النفط، ارتفع سعر الغاز الطبيعي أيضًا بنسبة 6%. ولإيضاح سبب حدوث هذه الزيادات عقب انتقال روسيا مباشرة إلى أوكرانيا وليس قبل ذلك؛ علق «ألطاف قسام»، من شركة «ستيت ستريت جلوبال أدفايزرز»، قائلاً: إن «المستثمرين تحولوا» من النظر إلى تصرفات بوتين على أنها «عرضية وشو إعلامي»، إلى إدراك «التهديد الحقيقي للصراع» في أوروبا الشرقية». وإلى جانب سوق الطاقة، عانت باقي قطاعات الاقتصاد العالمي نتيجة لهذه الأحداث. وتراجعت أسواق الأسهم العالمية الرئيسية من حيث القيمة، وافتتح مؤشر «فوتسي 100» في لندن، بانخفاض 1.4% في 22 فبراير 2022 عن اليوم السابق. بينما افتتح مؤشر «داكس» في برلين منخفضًا بنسبة 2%، وانخفض «مؤشر كاك40» في باريس بنسبة 1.5% أيضًا. كما عانت الأسواق في آسيا أيضًا، حيث شهد مؤشر «هانغ سنغ»، في هونغ كونغ، أكبر انخفاض في قيمته في 5 أشهر، حيث انخفض بنسبة 3%. الأهم من ذلك، أن هذه التراجعات للأسواق الغربية والآسيوية، لا تقارن بتلك التي عانت منها السوق المحلية الروسية، التي تراجعت بنسبة 14%، في الأسبوع التالي وانخفضت بنسبة 4.5% في أعقاب إعلان قرارات بوتين مباشرة. وفي ظل مشاكل إمدادات الطاقة الحالية، والخسارة المحتملة لصادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وزيادة الطلب على الصادرات من البلدان الرئيسية الأخرى المنتجة للطاقة؛ فمن المرجح أن يبلغ سعر النفط أعلى من 100 دولار للبرميل. وأشارت «براتيبها ثاكر»، في مجلة «الا يكونوميست»، إلى أن «أسعار النفط تتجه صعودًا مرة أخرى، حيث يتلاشى التفاؤل باجتماع بايدن وبوتين، بينما تواصل «أوبك بلس»، الكفاح من أجل الوصول إلى حصصها، والتي تسببت إلى حد كبير في عجز عالمي حاد بقطاع الطاقة». وتوقعت «مايكي كوري»، من شركة «فيديليتي إنترناشونال للاستثمار»، نفس القيمة، وأشارت إلى أنه بالنظر إلى أن روسيا «تنتج واحدًا من كل 10 براميل من النفط المستهلكة عالميا؛ فإن الغياب المحتمل لهذه الإمدادات، سيضر المستهلكين». وحتى احتمال إبرام «اتفاق نووي جديد» مع إيران وعودتها إلى سوق الطاقة العالمية لم يثر تفاؤل خبراء الصناعة، وعلق «فيفيك دهار»، من «بنك الكومنولث»، على أنه في حالة حدوث غزو روسي كامل لأوكرانيا، فإن «خام برنت»، سيرتفع إلى أعلى من 100 دولار للبرميل «حتى لو تم التوصل إلى اتفاق». وعلى الرغم من أن قطع صادرات النفط الروسية عن أوروبا، سيمثل ضربة كبيرة لإيرادات «موسكو»، فإن ارتفاع أسعار النفط في العالم سيؤثر أيضًا في منافسيها. ومن وجهة نظر، «إريك ريجولي»، في صحيفة «ذا جلوب آند ميل»، فإن مثل هذا السعر سيؤدي في النهاية إلى «مزيد من المعاناة للشركات والمستهلكين الأوروبيين». ومع سيناريو عزلة روسيا عن أسواق الطاقة الدولية، يجب مراعاة فرصة الدول الأخرى المصدرة للطاقة لزيادة حصتها في السوق. ولاحظ محللو «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أنه بالنظر إلى الطريقة التي توضح بها الأزمة مخاطر اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، فإن الحصول على مصادر بديلة للطاقة من الشرق الأوسط، يبدو الآن «حلاً جذابًا»، حتى لو بدا ذلك «قولا أسهل من فعله». وعلى وجه الخصوص، كانت قطر -ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم- «محور التركيز الرئيسي للجهود المبذولة لإيجاد إمدادات طاقة بديلة»، مع ضغوط شديدة من واشنطن للقيام بذلك خلال الأسابيع التي تمخضت عنها الأحداث الحالية. ومع ذلك، فإن مطالبة بعض أعضاء «أوبك بلس» -والتي لا تزال روسيا عضوًا رئيسيًا فيها- مؤخرًا باستمرار المنظمة في سياسة الإنتاج بزيادة 400.000 يوميًا في شهر مارس؛ لتلبية سلسلة إمداد الطاقة العالمية، يمنع الضغط من الدول المستوردة للطاقة لتقديم المزيد. وبالفعل، تحدث الأمير «عبد العزيز بن سلمان»، وزير الطاقة السعودي سابقًا عن «قيمة الحذر»، مشيرًا إلى أن الجائحة وجهود التعافي منها قد علمتنا ذلك». في حين ردد نظيره العراقي، «إحسان عبدالجبار»، كيف أنه «لصالح أسواق الطاقة بأكملها، يجب أن تظل أوبك بلس ملتزمة بالاتفاق الحالي المستمر والمستدام». غير أن الأحداث الأخيرة من قبل موسكو قد تستلزم تحولاً كبيرًا في هذه السياسة من قبل دول الخليج في «أوبك بلس»، خاصة إذا لجأت الدول الغربية إليها بالفعل لتعويض النقص في العرض والطلب. وبصرف النظر عن الاعتبارات المتعلقة بمستقبل سوق الطاقة العالمية؛ فإن فرض عقوبات اقتصادية غربية على روسيا أمر له تداعياته. وفي «واشنطن»، أصدر الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، أمرًا تنفيذيًا بفرض عقوبات على جمهوريتين انفصاليتين تدعمهما روسيا في شرق أوكرانيا. على الرغم من أن إدارته لم تصدر بعد بيانًا رسميًا بشأن العقوبات المحتملة ضد موسكو. من جانبه، كشف رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، عن أول «وابل» من العقوبات الاقتصادية التي تستهدف خمسة بنوك روسية وتجميد أصول ثلاث «شخصيات من أصحاب الثروات الضحمة» داخل بريطانيا، مشيرًا إلى أن حكومته تتوقع «مزيدا من السلوكيات والاستفزازات الروسية غير العقلانية»، وعليه، «سيتم تطبيق النطاق الكامل لإجراءات العقوبات المتاحة». وأوضح «مايكل شير»، و«ديفيد سانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الأمر «يهدف إلى السماح لواشنطن وحلفائها الأوروبيين بالاحتفاظ بخيار فرض عقوبات صارمة في حال أطلقت موسكو هجومًا كاملاً لغزو أوكرانيا». ومع ذلك، لم يتم الترحيب بهذه التدابير المبكرة دوليًا، ووصفها «بيل براودر»، في صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، بأنها «فاترة»، كما وصفها «ماكس سيدون» -في نفس الصحيفة- بأنها «أداء ضعيف» ضد العدوان الروسي المحتمل. وأكد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، «جوزيب بوريل»، أن «بروكسل»، تستعد أيضًا لفرض عقوبات اقتصادية ضد الروس، تشمل قيودًا مالية على ديون الحكومة الروسية، وكذلك ضد 350 عضوًا بمجلس الدوما. وفي المقابل، تجاهلت روسيا هذه العقوبات، وصرح وزير خارجيتها، «سيرجي لافروف»، بأن «موسكو باتت معتادة على الأمر». لكنّ مستوى العقوبات الاقتصادية قد يكون غير مسبوق في العصر الحديث، والتي كان أولها إيقاف العمل بخط أنابيب «نورد ستريم2». ويمثل قرار المستشار الألماني «أولاف شولتز»، بإيقاف اعتماد هذا الخط، أشد عقوبة اقتصادية ضد موسكو قد طبقتها الدول الغربية فعليا. ولعل انتقاد «شولتز»، سابقًا بسبب عدم اتخاذ أية إجراءات عقابية والدور الراهن لموسكو في المناطق الانفصالية، قد أجبر برلين على التحرك. وأوضح «سيدون»، أن هذه «خطوة كبرى»، و«تشير إلى أن العقوبات الغربية ضد موسكو ستكون قاسية». وأشارت «كوري»، إلى أنه من المرجح أن «تتعمق العقوبات مع استمرار التوترات، وسيكون لها «تأثير هائل» على الاقتصاد الروسي». وصرح «فيشنو فاراثان»، من «بنك ميزوهو»، أنه على الرغم من أن روسيا لم تدخل بعد في صراع واسع النطاق مع أوكرانيا، فإن الغرب يرى العقوبات أول خطوة في سبيل منع ذلك». وربما لن يكون للعقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا تأثير واضح في الاقتصاد العالمي؛ حيث إنه في حين عُرقل اقتصادها، جراء العقوبات التي صدرت بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. لا تزال موسكو مصدرًا مهمًا للموارد الطبيعية للعديد من البلدان، بما في ذلك دول الشرق الأوسط. ومع ذلك، ذكرت «هارييت باربر»، و«كامبل ماكديارميد» في صحيفة «التليجراف»، أن «التهديد بغزو روسي لأوكرانيا قد تسبب في تذبذب أسعار المواد الغذائية»، خاصة أن روسيا وأوكرانيا مجتمعتين تمثلان 29% من صادرات القمح العالمية، وكما أوضح «كارلوس ميرا»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن «الأسعار الإقليمية يمكن أن تتضاعف بسهولة»، إذا حُرمت الأسواق من هذه الصادرات». وأفاد تقرير للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنه «لا يمكن تجاهل التداعيات الاقتصادية والسياسية والأمنية لدخول روسيا إلى أوكرانيا بالنسبة إلى العالم». وتوقع «نيل شيرينج»، في «كابيتال إيكونوميكس»، أنه «من المحتمل أن يكون التأثير الاقتصادي على الأسواق الإقليمية الأخرى -خارج نطاقي روسيا وأوكرانيا- محدودًا، »وستتركز بصورة أكثر أهمية» في بروز ضغوط تضخمية إضافية. وبالمثل، رأت «إلسا لينوس»، في بنك «آر بي سي كابيتال كاركتس»، أن ردود فعل الأسواق على التطورات الأخيرة في أوكرانيا «ستعتمد على مدى العقوبات»، التي يفرضها الغرب على الروس. على العموم، إن تذبذب الأسواق المالية العالمية سيستمر كون واشنطن لم تفصح بعد عن المدى الكامل لردها على اعتراف موسكو بالمناطق الانفصالية الأوكرانية. وبما أن روسيا تعتبر «مصدرا رئيسيا» للطاقة، فإن هناك توقعات بارتفاع سعر »خام برنت» إلى ما يزيد على 100 دولار للبرميل خلال الأيام القليلة القادمة. وعلى الرغم من أن هذا الوضع، قد يكون مفيدًا من الناحية النظرية لدول الخليج المصدرة للطاقة على المدى القصير، إلا أنه ستكون هناك تداعيات طويلة المدى على الاقتصاد والأمن الدوليين. وعليه، فإنه رغم أنه لا يزال من غير المعروف بالضبط الخطوات التي ستتخذها روسيا بعد ذلك في أوكرانيا، فإن التداعيات ستنتقل إلى ما هو أبعد من أوروبا، مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
مشاركة :