القلق من الفلسفة عند ابن خلدون، والخوف منها على الدين والناس، كامن في أن من أساسها قدرة العقل على المعرفة بالعقائد الدينية، والإدراك لها، وفي هذا استغناء عن الدين ونصوصه، وقيام العقل مقام النص في قضايا، ليست من مدركاته بعد وفاة أبي حامد (505 ه) بثلاثة قرون كانت وفاة ابن خلدون، وما بين الرجلين من بُعد الزمان، وكذا بعد المكان، لم يمنع ابن خلدون أن يكون أحد ممثلي الاتجاه الرافض للفلسفة، والمستغني عن المنطق، والظان بهما ظن السوء، ومع ما يتسم به حديث ابن خلدون في "إبطال الفلسفة وفساد منتَحلها" من غموض في الجملة، وعدم وضوح في الغاية، وسبب ذلك أنه قرن حديثه عنها بالمنطق؛ مما يُظهر الفلسفة تارة كنتاج لهذا المعيار الذهني في الاستدلال والاستنباط، وتارة يبدو المنطق، وما فيه من آليات استدلالية، ثمرة لروح الفلسفة نفسها؛ إلا أن الرجل افتتح هذا الفصل قائلاً عن الفلسفة: "وضررها في الدين كثير، فوجب أن يُصدع بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق فيها" (المقدمة، الفصل الرابع والعشرون)، وهذا يجعل خطابه التحذيري من الفلسفة شبيهاً بمن تقدّمه، كأبي حامد وابن القيم، اللذين ذهبا إلى اتخاذ الخوف على الدين علة في التحذير، وسبباً من أسبابه. العلاقة بين الفلسفة والمنطق عند ابن خلدون في هذا الفصل علاقة السبب بالمسبب، وعلاقة الهدف بالطريق الموصل إليه؛ غير أنه مرة يبدو المنطق سبباً للفلسفة، وتارة تبدو الفلسفة سبباً له، يظهر المعنى الثاني في نوع هذه العلاقة من قول ابن خلدون عن الفلسفة: "زعموا أن الوجود كله، الحسيّ منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية، والأقيسة العقلية"، فالفلسفة قائمة عند الرجل على الإيمان بالعقل، والاستناد إليه في المعرفة، والجزم بعدم وقوف شيء أمامه حين يريد الوصول إلى شيء، ويبتغي القرب منه. هذه هي الفلسفة، أو هذه هي البذرة الأساسية في الفلسفة عند ابن خلدون، هي الإيمان المفرط بالعقل وقدراته، والانحياز الدائم إليه، ويفهم من سياق حديث الرجل أن الفلاسفة الأولين، خاصة أرسطو، حين آمنوا بهذه الفكرة، وجزموا بهذه الإمكانات الباهرة للعقل، خطر في عقولهم أن يبحثوا عن الوسيلة التي يمتطيها العقل، ويركبها إلى المعرفة، فاتجهوا إلى البحث عن هذا المركب، وسعوا إلى تحصيل ذاك المسلك؛ فوجدوه في المنطق، وحصّلوه فيه، فصار المنطق اليوناني، في نظرهم، سبب المعرفة الحقة، والطريق الوحيد إليها. والقلق من الفلسفة عند ابن خلدون، والخوف منها على الدين والناس، كامن في أن من أساسها قدرة العقل على المعرفة بالعقائد الدينية، والإدراك لها، وفي هذا استغناء عن الدين ونصوصه، وقيام العقل مقام النص في قضايا، ليست من مدركاته، وفي هذا فساد الدين، وخروج العقل عن مداره، يقول ابن خلدون: "زعموا أن الوجود كله، الحسيّ منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية، والأقيسة العقلية، وأنّ تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع! فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يُسمون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة". "وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع؛ فإنها من مدارك العقل" هذا هو المخوف من الفلسفة، ما دام ابن خلدون ينسب إلى الفلاسفة محبي الحكمة أنهم يذهبون بل يؤمنون أن العقائد الدينية تُصحّح من قبل النظر العقلي لا السماع الديني، وأن العقل قائم في أمرها مقام النبوة، وطريقه في إدراكها، وتحصيلها، هو هذه الآلة، المسمّاة المنطق اليوناني. هذه فِخاخ ابن خلدون التي نصبها في هذا الفصل من مقدمته للقارئ؛ فأولها أن الفلسفة، طلب الحكمة، عدو للدين وعقائده، وثانيها أن أصحاب الفلسفة، وأهلها الأولين، يؤمنون أن الفلسفة تُغني عن الدين والنبوة في تصحيح العقائد الدينية، وثالثها أن المنطق ما دام خادماً للفلسفة في تحقيق هذا الغرض، والوصول إليه؛ فهو في الحكم مثلها، وعليه أن يحمل وزرها، ويُنهي ابن خلدون فصله هذا قائلاً عن المنطق: "فهذا العلم، كما رأيته غير وافٍ بمقاصدهم التي حوّموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها، وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج". وهذه الفخاخ التي أتى بها ابن خلدون، وسبقه إليها أبو حامد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وقف في وجهها ابن حزم، وردّ على أهلها، ولم ير في الفلسفة، ولا في المنطق، تلك الصورة التي بنى عليها ابن خلدون موقفه منها؛ فالفلسفة عند ابن حزم: "على الحقيقة إنما معناها وثمرتها، والغرض المقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى السلامة في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه، لا غيره، هو الغرض في الشريعة" (الفصل في الملل والنحل)، فليس من الفلسفة عند ابن حزم دعوى إدراك العقائدة الإيمانية بالعقل والنظر، ولو كان الأمر كما زعم ابن خلدون وغيره؛ لكان ابن حزم الظاهري من ألدّ أعداء الفلسفة، وأكثرهم هجاء لها، وسبّاً لأهلها. ويثني على الفلسفة، ويعدّها علماً عظيم المنفعة، في رسالته "التوقيف على شارع النجاة" قائلا: "الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطا طاليس والإسكندر، ومن قفا قفوهم، وهذا علم حسن رفيع؛ لأنه فيه معرفة العالم كله..، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها". ذاك هو موقف ابن حزم من الفلسفة، ورأيه فيها، وهو المتقدم زمنياً على كل من كان له شأن، ممن ذكرتهم في المقالات، في رفض الفلسفة، ومحاربة المنطق، وله موقف أشد وأعنف في الدفاع عن المنطق، والزراية على منتقديه، وضمّن ذلك في مقدمة "التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية" وأنا أُورد من هذه المقدمة ما يُظهر ذلك، ويكشف عنه. أول شيء ينبغي ذكره، وإيراده من حديث ابن حزم، ثناؤه الجم على أرسطو وكتبه المنطقية، وذاك في قوله: "فإن من سلف من الحكماء، من قبلنا، جمعوا كتباً رتبوا فيها فروق وقوع المسميات تحت الأسماء التي اتفقت جميع الأمم في معانيها..، فحدوا في ذلك حدوداً ورفعوا الإشكال، فنفع الله تعالى بها منفعة عظيمة، وقربت بعيداً، وسهلت صعباً، وذللت عزيزاً، فمنها كتب أرسطا طاليس الثمانية في حدود المنطق، ونحن نقول قول من يرغب إلى خالقه الواحد الأول في تسديده وعصمته..: إن من البر الذي نأمل أن نغتبط به عند ربنا بيان تلك الكتب؛ لعظيم فائدتها!" ولعل جملة الرجل الأخيرة تُظهر بوضوح فرحه بالمنطق، وإيمانه به، وإخلاده إليه، ومن أعجب الغرائب عند العقلاء أن يتناقض الناس في الموقف من شيء واحد؛ فيرى بعضهم فيه ما يراه ابن حزم، ويرى فيه الآخرون عدوا للدين، وحرباً عليه. ويزيد من ثنائه عليها حين حديثه عن الضرب الرابع من الناس، وهم الذين انتفعوا منها، ونظروا فيها بأذهان صافية، فيقول عنها وعنهم معها: "فاستناروا بها، ووقفوا على أغراضها؛ فاهتدوا بمنارها، وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية..، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالرفيق الصالح، والخفير الناصح، والصديق المخلص..، فلم يسلكوا شعباً من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة هذه الكتب أمامهم ومعهم". وثاني أمر يحسن سوقه من حديث ابن حزم رده على أولئك الذين زعموا أن هذه الكتب محتوية على الكفر، مفسدة للدين، وهم الصنف الأول الذي أشار إلى موقفهم ابن حزم قائلا: "قوم حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر، وناصرة للإلحاد، دون أن يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة، وهذا وهُمْ يتلون قول الله عز وجل، وهم المقصودون به إذ يقول: (ولا تقف ما ليس لك به علم)". هذا مما أفادنيه ابن حزم، وله عبارات تستحق أن يطلع القارئ عليها، ويحرص على مطالعتها، ولعل مما يلزم إيراده دفاع ابن حزم عن أرسطو، وحماية جنابه، فبعد ما ذكره في نصه القريب المتقدم قال: "فرأينا من الأجر الجزيل العظيم في هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبت، القائلة دون علم، القاطعة بغير برهان، ورفع المأثم الكبير عنهم بإيقاعهم هذا الظن الفاسد على قوم برآء، ذوي ساحة سالمة، وبشرة نقية، وأديم أملس مما قرفوهم به!". وما أوردت نصوص ابن حزم، وحرصت على بثّها في المقالة، مع طولها، إلا ليقف بعض القراء الذين دأبهم محاربة الفلسفة، ومهاجاة المنطق، على أن من علماء الإسلام من كان له رأي آخر، ووجهة أخرى؛ لعل توترهم بهذا يخفّ، وعداوتهم به تضعف، وليس يغيب عني ما جرى للفلسفة والمنطق من تطور في العصور اللاحقة لتلك الأزمان، غير أن الموقف من الفلسفة لم يتغير، ولم يجر فيه جديد؛ فما زال المحاربون لها يأنفون منها، ومن ذكرها، ولعل قول ابن حزم: "وبالجملة فأكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه، وذم ما لم يعلموه، وهم كما قال الصادق عليه السلام: "الناس كإبل مئة، لا تجد فيها راحلة" يصدق عليهم، وينبي عن حالهم.
مشاركة :