نادراً ما بدت الحكومة الألمانية عاقدة العزم بكل ثبات وإصرار بأكثر مما كانت عليه حين أعلنت عن ردها على الهجوم الروسي على أوكرانيا. وخلال جلسة طارئة للبرلمان الألمانى يوم الأحد، أعلن الائتلاف الثلاثى الحاكم عدداً من الإجراءات العقابية ضد روسيا، الأمر الذى قد يرقى إلى لهجة شبه عسكرية، غير المألوفة في السياسة الخارجية الألمانية. حتى إن حزب المعارضة اليساري، المعروف بخطابه المناهض لحلف الناتو وملاحظاته المتوددة للرئيس بوتين، أعرب عن خطئه وأسفه، واعترف بأنه كان ضحية مخاتلة خبيثة: من كان ليتصور أن بوتين قد يُقدم على مثل هذا الأمر؟ صرح وزير المالية الألماني الليبرالي، عندما أعلن عن قرار حكومته منح 100 مليار يورو من التمويل الإضافي للبوندسفير، أي القوات المسلحة الألمانية المستنزفة، بأن الحرب في أوكرانيا قد أيقظتنا من حلم لطيف طويل الأمد، ولم يكن على الوزير أن يوضح بالتفصيل ما الذي يقصده بالحلم اللطيف طويل الأمد. كان جميع الحاضرين في مبنى الرايخستاغ التاريخي، الواقع على أطراف الستار الحديدي السابق، الذي يرمز اليوم لنهاية الحرب الباردة، يدركون المعنى: الفكرة المخادعة بأن جميع المشاكل يمكن حلها بالعقل، وبالعلاقات التجارية المفيدة للجميع، وبالنوايا الحسنة. حتى 22 فبراير (شباط)، كانت الحروب بين الدول ذات السيادة في الجوار الألماني ترجع إلى عهود الماضي البعيد. عشية الجلسة التاريخية، أقر المستشار شولتز تحولاً درامياً آخر في السياسة الخارجية والدفاعية للبلاد: تزود ألمانيا أوكرانيا بالأسلحة المضادة للدبابات، وصواريخ أرض جو المحمولة. ومن خلال الاستجابة لطلبات زعماء المعارضة في الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ومختلف الزعماء الأوروبيين الآخرين، بما في ذلك الرئيس الأوكراني ذاته، غيرت ألمانيا موقفاً كانت تدافع عنه بقوة حتى الآن: عدم نقل الأسلحة إلى مناطق النزاع الساخنة ما لم يكن هناك حليف لحلف الناتو يتعرض للهجوم بموجب ضمانات الدفاع المشترك. وهذا أمر لافت للنظر حقاً، لأن الحكومة الجديدة المؤلفة من الديمقراطيين الاشتراكيين، والخضر، والليبراليين كانت قد تعهدت بسياسة أكثر صرامة حول مراقبة تصدير الأسلحة من الحكومة السابقة. ثم غيرت أوكرانيا كل ذلك. المرة الأخيرة التي انحرفت فيها ألمانيا عن المواقف سالفة الذكر كانت عندما دعمت قوات البيشمركة الكردية في صد ميليشيات تنظيم داعش الإرهابي بشمال العراق. وعلى سبيل التهكم، يتمتع بوتين وداعش بالدرجة نفسها من التعاطف في برلين. لكن المعادلة الراهنة تحمل بعض الحقيقة: عندما بنى تنظيم داعش محوره الإقليمي للهجمات الإرهابية العالمية، شعرت ألمانيا بأن أمنها الخاص أصبح مهدداً. وهو شعورها نفسه اليوم. ولا نعرف بعد كيف سيتم تسليم الأسلحة، وما إذا جاء القرار بعد فوات الأوان، أم لا. بيد أن الخطوة نفسها تُعد بادرة تضامن لحلفاء الناتو. ولطالما كان «موثوقاً» في نوايا ألمانيا وقيمة سياستها الخارجية. لكن من المفترض لذلك أيضاً أن يكون بمثابة بادرة تحدٍ للقيادة الروسية. إن الجمهورية الاتحادية الخجولة سياسياً والقوية تجارياً في قلب أوروبا لن تخيفها تصريحات بوتين بأن كل من يعترض طريق روسيا لدعم العدو سيواجه غضباً غير مسبوق. إنها لحظة حاسمة وقاسية تمر بها الحكومة الألمانية بفريقها التقدمي الذي يفتقر إلى الخبرة بقدر ما يتصل بالسياسة الخارجية. عندما أدى الائتلاف اليمين في الخريف الماضي، أعلن عن النضال الكبير ضد التغيرات المناخية، وتحسين استهلاك الطاقة، ومكافحة الوباء، ومواجهة عدم المساواة بين الجنسين. ولم تكن مواجهة روسيا في أوكرانيا على جدول أعمال الائتلاف، رغم احتدام الصراع منذ سنوات. يرى الخضر والديمقراطيون الاشتراكيون أن المفارقة التاريخية تكمن في حقيقة مفادها أن الحرب، عندما حكموا ألمانيا معاً في تسعينات القرن العشرين، اندلعت في يوغوسلافيا السابقة وكوسوفو. وفي عام 1998، أدى قرارها بالمشاركة في حملة جوية يقودها حلف الناتو إلى جدل حاد في الدوائر الانتخابية، لا سيما بين صفوف حزب الخضر الذي انبثق من حركة شعبية مسالمة بالأساس. فضلاً على ذلك، فقد وصفت روسيا مراراً وتكراراً هذه الحرب على يوغوسلافيا المتحالفة مع روسيا باعتبارها خطيئة أصلية: عدوان غربي أحادي الجانب، مع ازدراء واضح لمصالح موسكو وحسن نواياها. والآن، أصبح لزاماً على الخضر والديمقراطيين الاشتراكيين التعامل مع تبعات الحرب الباردة مرة أخرى، ومع النسخة الروسية من مقولة «كما تدين تدان». وقال المستشار شولتز يوم الأحد، إن ألمانيا لن ترفض أي دعوة للدبلوماسية، ولكن «الحوار من أجل الحوار» لم يعد خياراً. وهذا هو ما اتهم كثيرون به ألمانيا من قبل، أو على وجه التحديد، كانت هذه سذاجة واضحة من حيث الاعتقاد بجدوى الحوار العقلاني مع فلاديمير بوتين. لدى ألمانيا إرث طويل من التواصل مع موسكو، منذ عهد مستشار السلام ويلي برانت في سبعينات القرن العشرين، ومن خلال مفاوضات هيلموت كول مع الزعيم السوفياتي غورباتشوف، وحتى الصداقة الشخصية المثيرة للجدل بين المستشار السابق جيرهارد شرودر وبوتين. شغل الرئيس الألماني الحالي فرنك فالتر شتاينماير منصب وزير الخارجية مرتين، وكان المهندس الرئيسي لما يسمى «صيغة مينسك» للتعامل مع الأزمة في أوكرانيا إثر ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. كان تردد المستشار شولتز السابق في تهديد روسيا بفرض عقوبات محددة إذا غزت أوكرانيا متأثراً بهذا التقليد بكل تأكيد. ويتعين على ألمانيا الاضطلاع بدور الوساطة. وعندما استنتج القادة الغربيون الآخرون فعلاً أن بوتين قد حسم أمره (أو فقده) وأنه كان مصمماً على الغزو، بدا شولتز وحكومته مترددين. إما لأنهم تصوروا أن بوتين يخادع ويمكن الحوار معه بعقلانية، وإما لخشيتهم أن مثل هذه الخطوة ربما تستفز الزعيم الروسي. ولأن موسكو قد «كذبت في وجوهنا»، على حد تعبير وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، فإنه يضيف بعداً شخصياً لكل ما سبق. فقد جعلت روسيا حكومتهم تبدو حمقاء، ما فاقم من حدة الأمر. أما الطاقة، فهي الجانب الأخير والحاسم في علاقات ألمانيا المعقدة مع روسيا. وتأتي معظم واردات ألمانيا من الغاز من الشرق. عندما أصبحت شركة «غازبروم» الروسية راعية القميص لأحد أشهر نوادي كرة القدم الألمانية، اعتبر ذلك رمزاً للاطمئنان المتبادل: فنحن نتعامل مع روسيا على حد سواء، وما دامت روسيا تعتمد علينا في سداد فواتيرها، بوسعنا أن نتخلص من أي مشكلة. وجاء تشييد مشروع خط الأنابيب الروسي الألماني «نوردستريم 2» بهذه الروح الإيجابية، مع كثير من الضغوط من كثير من الزعماء السياسيين ورجال الأعمال. نتيجة للأزمة الحالية، لن تفتح ألمانيا خط «نوردستريم 2» في الوقت الراهن، مشيرة إلى إعلاء المصلحة الوطنية والأمن على الترتيبات التعاقدية للقطاع الخاص. قد يكون القرار باستبعاد المصارف الروسية من نظام «سويفت» الدولي أكثر تأثيراً إلى حد كبير. وقد يسفر عن انقطاع إمدادات الغاز الروسية عن ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى لبعض الوقت على الأقل. وأعلنت ألمانيا يوم الأحد، اعتزامها بناء محطتين للغاز الطبيعي المسال تتمكنان من استقبال شحنات الغاز من موردين مثل الولايات المتحدة وقطر. ويرى البعض في ألمانيا أن هذا أيضاً كان نتيجة للضغوط الشديدة من قبل الولايات المتحدة، أو التسلط عليها، لشراء الغاز الأميركي عوضاً عن الغاز الروسي. وقد منح بوتين تلك الخطوة دفعتها الأخيرة. تضرب الأزمة الراهنة ألمانيا في وقت هي الأكثر ضعفاً فيه منذ وجدت نفسها في خضم مشروع تحول طموح، حيث تعمل الحكومة على خفض إنتاج الطاقة النووية وطاقة الفحم في وقت واحد تقريباً حتى تتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة الخضراء. وتشهد أسعار الطاقة ارتفاعاً صاروخياً، وقد أشار قادة الصناعة الموجهة للتصدير في ألمانيا إلى أن ذلك قد يهدد قدرات البلاد على المنافسة. وقد يؤدي الوضع الراهن إلى تحويل التركيز نحو جيران أوروبا الجنوبيين، لا سيما موردي الطاقة الذين يضعون أنفسهم شركاء في الطاقة والأمن ومحاولات حل النزاعات سلمياً. وفي هذا السياق، لوحظ في برلين أنه في حين شرعت إحدى الدول العربية في ملء صهاريج احتياطي الغاز الطبيعي المسال في القارة الأوروبية، امتنعت دولة أخرى عن التصويت على قرار مجلس الأمن برعاية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإدانة الغزو الروسي، متخذة جانب الهند والصين، ومتحولة بالتالي نحو الشرق بصفة رمزية إلى حد كبير. * خبير في العلاقات الأوروبية - الشرق أوسطية ورئيس تحرير مجلة «زينيث» الألمانية - برلين * خاص «الشرق الأوسط»
مشاركة :