صدقت معلومات المخابرات الأمريكية، وفشلت أمريكا، والاتحاد الأوروبي، والنظام العالمي، والأمم المتحدة في حماية دولة عضو في الأمم المتحدة. تم اجتياح أوكرانيا في وضح النهار وعلى حين يقظة من العالم. إنه فشل ذريع لكل الآليات والإجراءات التي أقرها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من أجل المحافظة على الأمن والسلم الدوليين. غني عن القول إن النظام العالمي مضطرب منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014م، ومؤشرات ذلك الاضطراب بادية في انتشار الدول الفاشلة، وأزمات اللاجئين في الشرق الأوسط، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب الشعبوين للسلطة في أوروبا وأمريكا، وصعود القوة الصينية، وتنمر روسيا، وضعف الإدارة الأمريكية، التي بدأت في الانكفاء على نفسها منذ تولى الرئيس ترمب السلطة عام 2016م. الرئيس بوتين يتبرأ من أية نية لتدمير النظام العالمي الذي هو جزء منه، ويتعهد للرئيس الصيني أنه سيجري حوارا رفيع المستوى مع أوكرانيا؛ هذا الحوار لن يكن بالطبع مع الرئيس الأوكراني الحالي زيلينكسي، ولكنه قد يعين رئيسا لأوكرانيا، ويعترف به، ويوقع معه معاهدة حماية ودفاع مشترك، وسيتحاور معه عقب ذلك. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لا تصدق الرئيس الروسي، فقد صرحت أن روسيا تسعى لتدمير البنية الأمنية في أوروبا وتقويض عزيمة الديمقراطية الغربية وقوتها، مضيفة أن الأوروبيين يواجهون «محاولة صارخة لإعادة كتابة قواعد النظام العالمي» من قبل تحالف روسي - صيني يسعى لفرض قانون الأقوى. سبق وكتبت في هذه الزاوية قبل أسابيع أن ما يجري هو توحش القوى الثلاث المتنافسة وهي الليبرو- ديموقراطية التي تقودها أمريكا من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر، وكما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تثبيت زعامتها للعالم، تحاول روسيا والصين إعادة التعددية في النظام العالمي. التحالف الليبرو- ديموقراطي المهيمن منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بقيادة أمريكا وعضوية أوروبا الغربية، وكندا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا فرض رؤيته السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم في تجاهل تام للواقعية السياسية التي يحتاجها النظام العالمي ليستمر في الحياة. وعندما أسس العولمة التي استفادت منها اقتصاديا وتنمويا جميع الدول بما في ذلك الصين وروسيا، كان الهدف من هذه الميزة التكاملية في التجارة العالمية أن يواصل النظام الليبرو- ديموقراطي التوسع والنفوذ، لكن الذي حدث أن دولا مثل روسيا والصين استفادت اقتصاديا ولم تعتنق الليبرالية-الديمقراطية في المجتمع والحكم. لقد كشف الرئيس ترمب فشل العولمة، كأداة من أدوات الليبرو-ديموقراطية، وسعى إلى فرض الضرائب والرسوم، والخروج من المعاهدات، وقوض الأسس التي قامت عليها العولمة. ولأن إدارة بايدن أخذت على عاتقها السير عكس نهج ترمب فقد عزمت على إصلاح الخلل بدلا من التضييق على العولمة، ووضعت خطة لتحييد المهددات التي تترصد لليبرو- ديموقراطية، وعقدت العزم على تقويض الممانعة الروسية - الصينية وحرمانهما من إعادة كتابة النظام العالمي. وكما فعل كارتر مع الاتحاد السوفيتي عندما اجتاح أفغانستان عام 1979م، يفعل الرئيس بايدن مع روسيا التي تجتاح أوكرانيا. الوصفة ببساطة تتمثل في رفع كلفة احتلال روسيا لأوكرانيا. ويتوقع الأمريكيون أن تلك الوصفة التي أسقطت الاتحاد السوفيتي سوف تسقط الرئيس بوتين. الفارق المهم في هذا السياق أن الدول الرئيسية المنتجة للنفط لا تتصرف وفق الاشتراطات التي كانت عليها إبان احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، ولذلك لن يتم إغراق الأسواق بالنفط للخسف بأسعاره مما يجعل روسيا غير قادرة على تمويل بقائها في أوكرانيا، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن قطاع الطاقة الروسي لم تشمله العقوبات خوفا من انعكاس ذلك على أسعار الطاقة في الولايات المتحدة فتزيد إثخانا في سمعة الإدارة الديمقراطية التي تترنح. ومع أن أمريكا والاتحاد الأوروبي يدركون أن «نقطة الضعف الواضحة» تتجلى في اعتماد الاقتصاد الروسي على طاقة الوقود الأحفوري، مع ثلثي الصادرات من النفط والفحم والغاز، فإن روسيا تعرف يقينا أن نقطة الضعف هذه هي في واقع الأمر قوة لأن شمول هذه المنتجات بالحظر سيؤلم الدول الصناعية في أوروبا وأمريكا. لروسيا أجندتها الواضحة من اجتياح أوكرانيا، وللغرب أجندته أيضا، ولكن تاريخ الحروب تعلمنا أن الدول تستطيع إطلاق الرصاصة الأولى وفق خطط محكمة ومدروسة، ولكنها لا تستطيع إيقافها بتلك السهولة. وفي الحرب الحالية سيتغير المشهد كليا فيما لو دخلت دول الحرب بشكل مفاجئ وغير محسوب العواقب؛ وأعني تحديدا استونيا ولاتفيا وسلوفينيا التي تخشى أن تفترسها روسيا بعد أوكرانيا، خاصة وأنها دول كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي، وهي حاليا أعضاء في الناتو. صحيح أن معاهدة حلف الناتو تلزم بقية الأعضاء بالدفاع عن أية دولة عضو، إلا أن ما جرى لأوكرانيا لا يطمئن بقية الدول الهشة في الجوار الروسي ولو كانت أعضاء في الناتو.
مشاركة :