فيليمون وهبي.. العبقري المظلوم

  • 11/27/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قبل ثلاثين عاماً بالضبط، في مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، رحل عن دنيانا بصمت وهدوء الرجل فيليمون وهبي الذي لم يعرفه كثيرون رغم أنه ملأ لبنان والوطن العربي بسيل من الأغاني ذات الطابع اللبناني المشرقي الأصيل، بعد أن كان منذ أربعينات القرن العشرين واحداً من ثلاثة مؤسسين لهذا اللون الخاص والمميز في الغناء العربي، وبعد أن كانت مدن الساحل اللبناني تكتفي بترديد الأغنيات التي يبدعها عباقرة الموسيقيين والمطربين العرب في مصر بشكل خاص، شأنهم في ذلك شأن سكان معظم، إن لم يكن جميع المدن العربية، بين المحيط والخليج. في ذلك الزمن المبكر، الذي كان يترافق مع عصر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وليلى مراد، بدأ ثلاثة فرسان من الموسيقيين الموهوبين في بيروت، من أشد المعجبين والمتأثرين بإبداعات الغناء العربي المصري، يؤسسون لمدرسة رديفة في الغناء، تمثل إلى جانب تأثرها باللون المصري وإبداعاته، خصائص الأغنية العربية في بلدان المشرق العربي، في فلسطين ولبنان وسوريا، وهم سامي الصيداوي، ونقولا المنى وفيليمون وهبي. ومع أن لبنان وفلسطين كانتا تمثلان في الثلاثينات ومطلع الأربعينات مساحة فنية مشتركة لا تفصل بينهما الحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو، فقد ارتحل أنشط هؤلاء الثلاثة (الذي كان يمارس الغناء والتلحين) أي فيليمون وهبي لسنوات عدة إلى فلسطين، حيث كان يغني على مسارحها وفي إذاعتيها المزدهرتين (أي إذاعة القدس وإذاعة الشرق الأدنى)، إلى أن عاد بعد نكبة فلسطين إلى الاستقرار في بيروت، مع زملائه الآخرين، حيث انبرى يؤسس من خلال أصوات مثل نجاح سلام وحنان ونورهان، تأسيس الألوان الأولى من الأغنية الخاصة التي كانت مشرقية الطابع، بتخصص لبناني، سواء في كلام الأغاني أو لحنها. جاء ذلك بعد أن قرر وزير الإعلام في أول حكومة لبنانية بعد الاستقلال، رئيس الحكومة رياض الصلح، ضرورة قيام شعراء الأغنية في الإذاعة اللبنانية بكتابة أغانيهم باللهجة اللبنانية، بدلاً عن اللهجة المصرية التي كانت متبعة في غناء المدن. ولو حاولنا اليوم، ونحن نستعيد الذكرى الثلاثين لرحيل فيليمون وهبي، أن نستعرض إنتاجه اللحني في عقده الأول، الأربعينات، فسنكتشف أنه كان إنتاجاً محدوداً في عدد الأغاني، مع أنها كانت ذات طابع تأسيسي، بالغ الأهمية. ميزة فيليمون وهبي عن بقية زملائه في هذه المرحلة التأسيسية، أنه كان أغزرهم إنتاجاً، وأنشطهم في التلحين، كما سيثبت بعد ذلك. عندما قامت في مطلع الخمسينات النهضة الموسيقية والغنائية الكبرى التي استمرت عقوداً ثلاثة، والتي كان فرسانها الأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وعفيف رضوان وخالد أبو النصر، ومن الملحنين، وديع الصافي ونصري شمس الدين، وفيروز، وصباح ونجاح سلام من المطربين والمطربات، تفتحت كل الزهور في حديقة فيليمون وهبي، القادم من المرحلة التأسيسية الأولى، فانبرى بغزارة يجسد عليها، يبدع ألحاناً في غاية الجمال، والتميز المشرقي، والأصالة المقامية العربية الظاهرة، واضعاً الألحان لكل الحناجر النسائية والرجالية اللبنانية، التي صنعت أمجاد الغناء، في مرحلة النهضة الكبرى، وعلى الأخص منها صوت كل من صباح وفيروز. ألحان فيليمون وهبي لصباح، وهي كثيرة وعرفت كلها نجاحاً جماهيرياً ساحقاً، تميزت بلون خفة الظل والدلع الأنثوي والنفس الشعبي الأصيل، التي كانت تتميز بها حنجرة المطربة الكبيرة صباح. لكنه عندما تحول بعد ذلك إلى التلحين لفيروز، بمعدل أغنية واحدة في كل مسرحية غنائية أخذ يبحر في أعماق لونه الشعبي الأصيل، حيث زود فيروز بما يزيد على ثلاثين لحناً من كلمات الأخوين رحباني أولاً، ثم كلمات جوزف حرب ثانياً، بعد انفصال فيروز عن المؤسسة الرحبانية. بلغت هذه الأغنيات من الرقي الفني الرفيع، والانتشار الجماهيري الذي لا حدود له، حتى إن مشكلة فيليمون وهبي وعقدته النفسية أصبحت تتمثل في أن معظم هذه الأغنيات المدهشة في جمالها ومستواها الفني، إن لم يكن جميعها، كانت تنسب إلى ألحان الأخوين رحباني، اللذين لم يكن لديهما أي مانع إزاء هذا الالتباس. نذكر أخيراً بعض هذه الأغنيات الرائعة التي لحنها فيليمون وهبي لفيروز: ليلية بترجع يا ليل، يا دارة دوري فينا، فايق يا هوى، يا مرسال المراسيل، من عز النوم، على جسر اللوزية، يا ريت منن، ورقو الأصفر، طلعلي البكي، وغيرها كثير. بقي أن نذكر في ختام هذه العجالة عن عبقري الأغنية اللبنانية والعربية، أنه كان إلى جانب موهبته الموسيقية الفذة، يتمتع بروح ساخرة عالية المستوى، مما دفعه إلى تلحين عدد من الأغنيات الساخرة، كان يؤديها بصوته الأجش، وقد عرفت نفس نجاح ألحانه لأصوات صباح وفيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين ونجاح سلام.

مشاركة :