طبيعة العلاقات بين الأشياء، وماهية الروابط بين العناصر، توضحان المعايير الأخلاقية لمضامين الوعي الإنساني، وتعبران عن الجوانب الفلسفية للظواهر الثقافية، وتحددان النظم الرمزية للتجارب الذاتية للأفراد، ضمن مسار المجتمع وحركة التاريخ. وهذه الأنشطة الحيوية مجتمعة - بحسب الكاتب إبراهيم أبوعواد - تدفع باتجاه تأسيس عملية التفاعل الاجتماعي على قاعدة فكرية صلبة، تولد الحقائق الاجتماعية القادرة على حمل المعاني الوجودية، وإيصالها إلى مستويات الواقع المادي. وبما أن المعاني الوجودية مختلفة، وخاضعة لأدوات تفكيك متنوعة، ومحتاجة إلى آليات تأويل متعددة، صارت الحقائق الاجتماعية الحاملة للمعاني الوجودية ذات طبيعة رمزية، تحلل عناصر الوعي الذي يكون الظروف المحيطة بالفرد والجماعة، وتفسر تراكيب السلوك الذي يتأثر بالعوامل النفسية والأحداث الحياتية. ومنظومة "عناصر الوعي / تراكيب السلوك" تشكل المنظور الاجتماعي الثقافي في مساره الأفقي "وصف طبيعة الاتصال بين الأفراد، والتواصل بين مكونات المجتمع"، ومساره العمودي "وصف العمليات العقلية في الوقائع التاريخية، وتقويم العلاقات الاجتماعية، وتقييمها من خلال فاعلية الظواهر الثقافية". والصلة الوثيقة بين المنظومة والمنظور في بنية المجتمع تساعد الفرد على التأقلم مع المحتوى المعرفي، والتكيف مع الروح العقلانية، والتميز عن المسلمات الافتراضية، ما يؤدي إلى تجاوز هشاشة الواقع الاجتماعي، وإعادة بنائه وفق المفاهيم الفكرية الإبداعية، وهذا يكشف عن الدور الحاسم للفعل الاجتماعي في التنمية المعرفية والنهضة الثقافية. سلطة المعرفة في السياق الاجتماعي ذات تأثير مركزي في المشاعر الإنسانية. والمجتمع الحقيقي يستمد حياته وحيويته وشرعيته من مشاعر أفراده، ويحولها إلى قوة فكرية لمواجهة المشكلات المجتمعية، وتحرير الأنساق الرمزية للحياة من الوعي الوهمي وإنكار الواقع. وإذا كانت سلطة المعرفة لا تتشكل إلا ضمن شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية، فإن كينونة الثقافة لا تتشكل إلا ضمن بناء الشخصية الفردية في الأداء الوظيفي للنظام الاجتماعي العام. وإذا استطاع هذا النظام تحقيق الوحدة بين مكوناته، والوصول إلى حالة من الانسجام والتكامل بين كياناته، فإن الأنساق الرمزية للحياة ستستقر في جسد اللغة، وتعمل على تجسيد التاريخ كنسق اجتماعي مستمر ومتطور، وهذا يسهم في تكوين أنظمة التفاهم والاتصال بين الفرد وذاته، والفرد وبيئته، والفرد والجماعة التي ينتمي إليها بحكم الهوية الوجودية والصفة التاريخية والحقيقة الجغرافية. وانتماء الفرد إلى مجتمعه يسهل عملية توزيع الأدوار الاجتماعية، وترسيخ البنى الوظيفية في شبكة الروابط الفردية والعلاقات الجماعية. وهذا يعزز قدرة المعرفة على بناء الوعي - الكلي والجزئي - على نظام اللغة والثقافة، وهذان العاملان يكونان صيغ التفاعل في حركة التاريخ كبنية قائمة بذاتها، ومستقلة عن أوهام الأنظمة السلطوية، التي تعمل على تهميش رمزية اللغة الحاملة لأحلام الفرد، وتمييع الثقافة الحاملة لشرعية الوجود. المعرفة تقوم على سلطتها الذاتية وذاكرتها الخاصة. وبما أن السلطة محكومة بالذاكرة، والذاكرة يتم استدعاؤها لتأسيس شرعية السلطة، فإن تاريخا جديدا سينشأ لإقامة علاقة توازن بين السلطة والذاكرة، وتوليد قوة فكرية شديدة الاستقطاب، تكرس الضوابط الاجتماعية كمحاولة للسيطرة على جوهر الأشياء والعناصر، وإعادة تعريفها للتكيف مع الأحداث اليومية والتغيرات النفسية. وكما أن شرعية سلطة المعرفة تعتمد على الأداء الواقعي، كذلك الأداء الواقعي يعتمد على ذاكرة الفرد ضمن تاريخ الجماعة. وكل ذاكرة خارج التاريخ هي ريشة في مهب الريح، وكل تاريخ خارج الذاكرة هو فخ مستتر.
مشاركة :