منذ ثلاث سنوات تنتظر أم محمّد إيعالي اللحظة التي تعانق فيها حفيداتها الثلاث المحتجزات مع والدتهن في مخيم الهول في شمال شرق سوريا حيث قتل إبناها الوحيدان اللذان كان يقاتلان في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. وداخل غرفة نوم للأطفال مزينة بنجوم ووسائد ملونة، تبكي أم محمّد (50 عاماً) على حال حفيداتها وأكبرهن في العاشرة من عمرها وأصغرهن في الرابعة. وتقول بتأثر من منزلها الواقع في مدينة طرابلس شمال لبنان “جهزت لهنّ غرف النوم، أقول لنفسي اليوم يأتين وغدا يأتين، أنتظرهنّ منذ ثلاث سنوات”. وشكّلت طرابلس المدينة ذات الغالبية السنّية والتي تعدّ من بين الأكثر فقراً في لبنان خلال السنوات الماضية حاضنة لمجموعات متشدّدة ناصرت المعارضة السورية إثر اندلاع النزاع العام 2011. والتحق المئات من شبانها بمجموعات مقاتلة هناك بينها تنظيم الدولة الإسلامية في أوج سطوته بعد إعلانه قيام “دولة الخلافة” صيف 2014، ولحقت بهم زوجاتهم برفقة أطفالهن غالبا. ◙ منذ سنوات تكرر الإدارة الذاتية مطالبة الدول باستعادة رعاياها من محتجزين في مخيمات أو معتقلين في سجون بعد أن كانوا مقاتلين مع التنظيم ومن بين هؤلاء آلاء (30 عاماً) زوجة محمد إيعالي المتهم من القضاء اللبناني بتجنيد عناصر لصالح التنظيم والذي قتل عام 2019 في معارك الباغوز، آخر معقل للتنظيم في سوريا قبل إعلان قوات سوريا الديمقراطية القضاء عليه بدعم من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة. ورغم دحره جغرافيا من سوريا والعراق المجاور، تمّكن التنظيم خلال الأشهر الماضية من تجنيد العشرات من الشبان من طرابلس الذين التحقوا بصفوفه في العراق، وتبلّغت عائلات ثمانية منهم على الأقل بمقتلهم. وعائلة إيعالي واحدة من العشرات من العائلات التي تطالب السلطات اللبنانية بإعادة نحو مئة شخص من نساء وأطفال من مخيمات تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا. وبعد خروجها من الباغوز انتقلت آلاء مع بناتها الثلاث، والصغيرة منهن ولدت في سوريا، وفق ما تروي عائلتها، إلى مخيم الهول حيث وُضعت في القسم المخصص للمهاجرات والذي يضم نحو عشرة آلاف من عائلات مقاتلي التنظيم المتطرفين الأجانب والخاضع لحراسة مشدّدة، وغالباً ما يشهد توترات وفوضى أمنية. وتوضح أم محمّد التي قتل ابنها الآخر في صفوف التنظيم عام 2017 “لم يكن لدي إلا هذين الشابين وقتلا، ليرحمهما الله. هما اختارا طريقيهما، ولا أستطيع أن أقول شيئاً، هذا قضاء الله، لكن ما أريده هو إحضار هذه المرأة والطفلات ليعشن معي”. وتقول عن حفيداتها بينما تجهش بالبكاء “أعيش من أجلهن، حلمي أن أضمّهن إلى قلبي وأشمّ رائحة والدهن”، معربة عن حزنها الشديد لظروف عيشهن الصعبة في خيم تخترقها الأوحال والأمطار شتاء مع نقص في الكثير من الحاجات الأساسية. عباس إبراهيم: لا بد من قرار سياسي لمعالجة الأمر مع المسؤولين الأكراد وتؤكّد بينما غرف حفيداتها مجّهزة في منزل العائلة أنها تريد “تعويضهن عن كل شيء، عن حنان الأب والطعام والمال”، متحسرة كيف “يعشن في البؤس محرومات من كل شيء”. ونجح والد آلاء خالد أندرون في لقاء ابنته وحفيداته مرتين داخل مركز لقوات سوريا الديمقراطية، من دون أن يتمكن من إخراجهن من سوريا. وانتهت إحدى محاولات ابنته للفرار مع مهربين بالفشل إثر انفجار لغم أرضي أدى إلى إصابتها في قدمها وجعلها شبه عاجزة عن الحركة. ويقول أندرون الذي يتابع ملف العائلات اللبنانية في مخيمات شرق سوريا “ماذا سيكون مصير الطفلات؟ يحتجن إلى إعادة تأهيل وتعليم وطبابة، والأهم إلى علاج نفسي. نحن مستعدون لذلك كلّه”. ويبلغ عدد النساء مع الأطفال 94 شخصاً، وفق أندرون. ويوضح أن الحكومة تتولى منذ العام 2019 متابعة الملف وأحالته مؤخراً إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي يطالبه بأن “يسرّع في إحضار أولادنا”. وأكّد اللواء إبراهيم أن “الملف موجود لدى الأمن العام”، موضحاً أنه “موضوع متابعة في انتظار القرار السياسي لمعالجته مع السلطات المعنية المسؤولة عن مكان التوقيف”، في إشارة إلى السلطات الكردية. ومنذ سنوات تكرر الإدارة الذاتية مطالبة الدول باستعادة رعاياها من محتجزين في مخيمات أو معتقلين في سجون بعد أن كانوا مقاتلين مع التنظيم. وسبق لإبراهيم أن تولى وساطات عدّة قادت إلى الإفراج عن محتجزين لدى أطراف عدة في سوريا آخرهم 19 فردا من عائلات ألبانية من مخيم الهول الذي يعتبره مسؤولون أكراد بمثابة “قنبلة موقوتة”. وتحذّر الأمم المتحدة من تدهور الوضع الأمني في المخيم مع تكرار مقتل محتجزين فيه وحراس أمن وعاملون إنسانيون. وبعد محاولتي فرار باءتا بالفشل تمكنّت أم مصعب سكاف (35 عاماً) نهاية عام 2018 من مغادرة مخيم الهول برفقة ابنيها (13 و14 عاما حينها) بمعيّة مهرب مقابل نحو ثمانية آلاف دولار. وكانت أم مصعب قد التحقت بزوجها في الرقة في شمال سوريا، أبرز معاقل التنظيم المتطرف آنذاك، عام 2015 قبل أن يقتل لاحقا في المعارك. لكن أم مصعب تركت خلفها ابنة (17 عاماً) متزوجة من مقاتل سابق في التنظيم، ومحتجزة في مخيم روج في محافظة الحسكة الذي يُعرف إلى حد ما باستقرار الوضع الأمني فيه. وتقول “طالبنا كثيراً بأن يعيدوا اللبنانيين وبينهم ابنتي. مضت خمس سنوات من دون أن أراها (…) انتهى الملف، عليهم أن يعيدوهم”. وكانت أم مصعب التي سجنت بعد عودتها إلى لبنان لتسعة أشهر في عداد وفد من الأهالي التقى عددا من المسؤولين اللبنانيين بينهم اللواء إبراهيم ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي المتحدر من طرابلس للمطالبة بحلّ القضية. وتضيف “ابنتي قاصر ذهبت معي، ما ذنبها؟”. وفي طرابلس أيضاً حيث يلاحق الآلاف من الشبان بتهم ذات طابع إرهابي تتعلق بمهاجمة الجيش وشنّ اعتداءات في مناطق عدّة والقتال في سوريا، تنتظر نورالهدى عباس (59 عاماً) عودة زوجة ابنها وطفلته (سبع سنوات) من مخيم الهول. وتقول “لم نترك مسؤولا إلا وقصدناه، كلهم وعدونا خيرا. يقولون لنا هذا الشهر وهذا الأسبوع سُيحل الملف”. وتناشد السلطات “أحضروا النساء، من عليها شبهات فليتم توقيفها. لسنا ضد الدولة بل معها”. وتتابع بغصّة “أريد حفيدتي، ومن حقي أن أطالب بها”، لافتة إلى أن الأطفال “لم يختاروا هذه الحياة (…) لكننا قادرون على تغييرها”.
مشاركة :