اللغة هذا الطائر بأجنحة المعاني يأخذ الكائن الى شواسعه في رحلة كشف حيث القول بالذات في بهائها النادر وجدا وحلما وتجليات شتى وبما لا يمكن معه السقوط.. .اللغة هذه الزهرة الجميلة في الأقاصي تغري الفراشات وهي ترقب هبوبها بعينين من ألوان ورحيق.. ووحده الشاعر هنا يدرك يرها.. بل الأسرار ليذهب بعيدا في النظر والترجمان والدهشة.. هي اللغة بالنهاية قول الأؤض تجاه الفصول.. ما سيبقى للأمكنة.. للمدينة. الشعر وهنا في جهة من جهاته دهشة بفعل الادراك.. ادراك سحر الكلام وفعله الفاتن في الذوات والعناصر والأشياء والتفاصيل.. سحر يشغل الذاكرة يدعو حكاياتها الجميلة بكثير من الحنين والأسى والبهجة على سبيل التذكر والانتشاء في عوالم مأخوذة بالفجيعة والتداعيات المريبة.. .عوالم مفجوعة وموجوعة تحتاج موسيقى أخرى.. موسيقى الشعر.. شدو البلابل مثلا.. وهذا يكفي لتهنأ اللغة في رحاب شاعرها الذي يقول حين.. لا يقول: "هي صمتنا لما سئلنا عندبدء الخلق عما نشتهي .. .. .. .. هي ما تناثر من نجوم كلما زاولت اسمك أو اذا أسميتني .. .. .. .. هي ما تقول الأرض في بدء الفصول هي ما نقول و لا نقول هي ما سيبقى للمدينة حين نمضي من صداي و من صداك". ومن اللغة وبها يتحسس الشعر/الشاعر ذاكرة الأشياء يحاورها ويحاولها في فسحة من القول والنظر بعين القلب لا بعين الوجه ذهابا للأقاصي والى حيث يبدأحديث الذاكرة.. الذاكرة هنا ضرب من الوجدان واحساس الشاعر بالغربة.. غربة الأمكنة وفداحة الحال.. .وفصاحة الروح.. فسحة من الشعر يجترح بهجة من عنفوان الذاكرة تقصدا للغناء والتحليق مثل طيور حالمة في الزرقة البعيدة أدركت وجهاتها الأولى.. زمن الضياع والتيه المريب: " ليديه ذاكرة الطيور و لي أنا أن أجعل الدوري يدرك عشه و يحطمن فزع على كفي و ينفض ريشه المبتل ينقر حبتين فيهتدي لحقوله الأولى و يهجع في يدي ". هذا شيء من عوالم مناخ شعري يحيلنا الى بذخ الصلة بين الكتابة والذاكرة.. بين الشعر وذاكرة الأشياء في لعبة تقول بالآني وفق ذاكرة أحواله وتلويناته حيث الخطاب الشعري أسئلة مفعمة بالشجن في أرض الذاكرة ومجالاتها الخصبة والجرداء وخلاصة الأمر هي القصائد تنشد خلاص الكائن في أحواله وفي حله والترحال. القصائد تستدعي الذاكرة في غير عناء وتكلف.. فقط هو صفاء المعاني والكلمات يدعو أزمنة وأمكنة وحكايات في هدوء الشعر وما يشبه النواح الخافت.. الذكرى حارقة والذاكرة روح لا تضاهى يخلص الى كنهها الشعراء يجترحون القصائد في هيئات شتى من البهجة والألم والسعادة والأمل والحيرة والحلم.. هذا الحلم الآسر مدرك الذاكرة والمأخوذ بألوانها. " ما كنت أنوي أن أكون على الطيور رقيبة حتى يطيرها الفزع أو كنت أنوي أن أديرالريح في غير اتجاه الفلك أو أذكيت في النسيان ذاكرة الوجع أبدا و لم أطلب من النخل المهاجر أن يغادر رمله و يطول في برد الشوارع والمدن أو كان زرعك في حقولي كي أصلي للمطر أو كنت كثلي في الهوى أدركت منزلة المواجد كي أبادلك الصبابة أو أقاسمك السهر". هذا شيء من دفتر الأحلام والرغبات والشجن في فسحة الوجد والذاكرة.. ذاكرة العشق والطير والوجع.. حيث القصائد تفصع عن آنها القديم الجديد.. عن ظلالها الماكثة في الأمكنة من القيروان الى بلنسية الى.. ذاكرة الشعر.. هذا الآخذ بناصية الأشياء حيث المعاني تطلع لتذهب بعيدا في العلو.. كالطير.. هي ذاكرة الطير.. ذاكرة الشاعرة بين لونين.. الألم والحلم.. والشاعرة هنا بالشعر وحده تهم باللونين ذاكرة وشعرا وكل ذلك في حالة من طفولة التعاطي تقصدا للجميل والفاتن وما هو كامن فينا من بهاء نادر رغم المواجع والحسرة والاسى.. .هذا هو الشعر الخالص اذ يبوح بسره ويكشف غناءه الخافت في ضرب من الانتشاء بكل شيء.. بالخسارات الجميلة.. .بالحلم القادم.. وباللاشيء.. وليكن.. الشاعرة هنا تعيد العناصر لذاكرتها.. للينابيع.. للجوهر والكنه وما به يكون الشعر شعرا: " قل ما تريد ولا تقل كانت تغني لي و تبدع في النشيد .. . قل ما تريد و لا تقل قد كنت ملهمتي و سيدة القصيد و لا تقل خانت و مالت للهوى الآتي الجديد و غدا سيكسر في الرياح جناحها و تعود مفردة كما الطير الشريد .. .. ستجيء تطلب في القصائد ملجأ و تنوح في بيت القصيد .. .. .. .. .. . ". هكذا هي الشاعرة جميلة الماجري في ديوانها الممهور بـ "ذاكرة الطير" لصادر ضمن سلسلة " قصائد " عن دار "مومنت" للنشر تأخذنا الى جنان الذاكرة وحرائقها وتمر بالأمكنة تنظر باتجاه المعاني وتحيي ما بها من فرح ووجيعة وذكرى، شعر رائق سلس به مسحة الأعماق والشجن البليغ، تمضي مع القصائد فتأخذك من يدك الى مواطن الجمال تدلك اليها لتكتشف شيئا من دواخلك عبر الأزمنة والأمكنة، تنبش في خرائط المسرات لتلق جواهر الأحوال، وكنوز الجهات، ومنها الكنز القيرواني الضارب في القدم والأسطورة الشعبية: "من أي كنز تبدئين؟! الليل مشتمل على أسراره وكنوزه.. متكتم.. . و الكنز مرصود لسيدة النساء تكون مفردة بمعنى الجمع تختزل النساء بليلة و تجيء قبل الفجر تلقي كل فتنتها على الأعتاب" هذا الديوان الشعري تحتشد فيه عوالم الذاكرة حيث التذكر شأن شعري بين ذاكرتين.. ذاكرة فردية متصلة بشؤون الشاعرة وخصوصياتها وذاكرة جمعية بين بيئة الشاعرة وتواريخ وحكايات ومعالم كل ذلك في شيء من أصالة التعاطي الشعري.. وفق جدلية سؤال الذاكرة والشعر واجابات عنه قديمة جديدة.. ان الذاكرة فاعلة ومؤثرة في الانسان وفي وعيه ولا شعوره.. الذاكرة فعل حسي وبالتالي شعري يدعو الماضي بكل تلويناته الى اللحظة الراهنة.. لحظة الكتابة.. .ان الذاكرة هنا في هذا المجال الشعري لقصائد الماجري مولدة فهي تبتكر عوالمها المتجددة بكم هائل من الخيال.. إنها الذاكرة الشاعرة تملي بوعي الشعر وخساراته الجميلة وشجنه وحرقته وأساه على الشاعرة قصائدها المعطرة والمثقلة بعطور الحنين والنظر والتأمل.. فعلا.. الكتابة الشعرية في حيز منها محض ذاكرة متيقظة تعيد صياغة عالم عابر لتعيده منتج حالات جديدة مؤثرة في أنساق الحاضر وفق عناوين منها التجدد والقيمة والجمال وما به تقوى القصيدة على مواجهة راهنها المتداعي. هي الشاعرة تبتكر طيرها لتأخذنا الى دروب من رحلة الشعر.. هي رحلة الذاكرة الثاقبة في رمزية وشعرية بشكل عارم تجترح حكاياتها وفق هذا الآني الشائك الذي تتداخل أحواله مع القديم.. فسحة الشعر ضمن زمنين فيهما المجد والسقوط والسعادة والخيبات والبهي والموحش.. وكان لا بد من طير في علوه يمنح الأشياء والجهات شيئا من ذاكرتها أمجادها المنسية في زحمة هذه المتغيرات العاصفة بكل شيء وخاصة ما هو جميل وكامن في الدواخل.. واللاوعي.. هكذا كانت قصائد المجموعة ذاهبة في عمق حالاتنا العربية ووجدانياتها وما حف بها من نسيان وزيف وانهيار. "سلام على أمة أسلمتنا لمفترق الطرق ثم مضت كأغنية في شفاه السراب سلام على زمن القول يا أمة ضيعت ماء وجه القصيد وباعت بلاغتها في مزاد اللغات ".. شعر ينهض من حكاياته الجمة يرسم بالكلمات مدارات عشق وهيام وانكسار ووجد حيث لا مجال لغير التذكر لتلمع المعاني كاشفة أزمنتها الباذخة ومن ذلك براعة الشاعر في استعادة حكاية الصداق القيرواني حيث أحب أبي جعفر المنصور أروى القيروانية وكان ذلك السرد الشعري الذي أبدته الشاعرة في صور بليغة ومعان بديعة محت المسافات لتجمع القيروان ببغداد وزرود بالفرات وشط الجريد وشط العرب. "أجابته : ما زلت لم تبلغ الباب بعد فللقيروان مداخل لم تختبرها فقال : العراق ! أجابت : وذي قيرواني " فقال : " أعلق ما بين ماءين أرجوحة للجميلة و ماء زرود و ماء الفرات فقولي : نعم كي أمد لهودجك الظل ما بين شط الجريد و شط العرب .. .. .. .. .. .. .. .. " شجن وعشق وألق في التواريخ زمن الانكسارات والفراغ والتداعي المريب.. أين العراق والعرب في هذا الكون الضاج العاصف والصاخب وقد ظلت الحكايات بمثابة الأمجاد الضائعة.. والخسارات الجميلة في وجدان الشاعرة وهي التي ديدنها في هذا الليل العربي ذاكرة طير.. هذه الذاكرة المتشظية في القصائد. و من قصائد هذا الديوان نجد " اللغة " و" ميلاد القصيدة " و"ذاكرة العشق" و" الكنز القيرواني " و" حديث الشجرة " و" حرقة الأسئلة " و" موت المغني " و" الغريب وعشق القيروان " و"فتى ضيعته الفتوة" و"مرسى الهوى" و"سلام ".. .قصائد تكشف حيزا من الاعتمال حيث الذات في حنينها القاتل وشجنها العالي بما يشبه النواح الخافت بين حالتين وزمنين وحكايتين.. قصائد فيها النظر بعين القلب لا بعين الوجه قولا بالشعر يعلي من شأن الأحوال زمن الأسى لتظل اللغة الشاعرة الملاذ والذكرى.. والذاكرة. "هي ما تقول الأرض في بدء الفصول هي ما نقول ولا نقول هي ما سيبقى للمدينةِ حينَ نمضي من صداي ومن صداك ". "ذاكرة الطير" شعر يذهب الى دواخلنا قولا بالقيمة زمن الذهول تجاه الانهيار المبين حيث الشعر هو العزاء والبهجة العارمة، هم الشعراء يدعون الجميل في حضرة ما تداعى بلغة تقوى على ترميم ما تصدع في الذات.. الذات الشاعرة التي لن تكف عن الحلم والتحليق عاليا وبعيدا كالطير.. .الشعر هنا فعل حياة زمن الفجيعة.. قول ذاكرة حية.. .زمن الزيف والمحو.. والنسيان.
مشاركة :