رواية «ماكيت القاهرة» للكاتب طارق إمام، نجد فيها خيالا بكرا، فكلما شعرت أنك وصلت إلى النهاية يفاجئك بما هو أكثر، حينها تفتح روحك على آخرها لتلقي الخيال والتعامل معه، فلكل شيء في الرواية منطق، لكنه منطق خيالي، تحكي عن أسرة غرائبية وعن مدينة القاهرة ومشروع لصنع ماكيت لها، والماكيت هو (فن المصغرات)، كما حاول الكاتب تصغير أم الدنيا في رواية. يحضر ضمن المصغرات كل من ميدان التحرير، وشارع محمد محمود، وبرج القاهرة، وملامح الثورة، في مسار السرد. ويستقدم الكاتب تفصيلات من أحداث ثورة 2011، حيث يثير الأسئلة حول مستقبل المدينة وتداخل الأشياء لصنع حدث جديد على الدوام، هذه الحركة المستمرة، هي ذاتها مسرح الصراع بين هوية المدينة الحالية، والسابقة، وما ستكون عليه في المستقبل، هذه المحاور جميعها وضعها إمام كأعمدة لصناعة هيكله السردي المتقن، «أكثر ما أخاف أوريجا أن تكون هذه الطريقة في تجميع مشهدٍ ما هي الطريقة الأنسب لكتابة قصة حياته نفسها، إن تحوّلت يوما ما لرواية، بحيث تُسرد في مِزَق غير مرتبة، ينبغي تركيبها قطعة بقطعة، في كل قطعة تفصيله من الحكاية، لا تشترط الأسبقية لدى وضعها في مكانها الفارغ من المشهد الكبير، وبحيث يمكن أن تبدأ الحكاية بأي قطعة، وتنتهي بأي قطعة، حسب تجاور مكاني، يُولّف في النهاية، مشهدًا لا ترتيباً زمنيًا خطيًا، طموحه قصة منسجمة». وبينهما الإنسان ذلك المحطم تقريبا لكنه في الوقت نفسه المقاوم بطريقته، لدينا القاهرة بعالمها الذي نعرفه وعالمها المجهول أيضا، ولدينا شخصيات (نود وبلياردو وأريجا، وفى النهاية تظهر مانجا) يختصرها الكاتب في هذه السطور؛ «يسهم أوريجا في تنفيذ ماكيت القاهرة 2020 الذي يُنتج ساكنيه وبينهم نود، ونود تصوّر ماكيتاً أصغر داخل ماكيت أوريجا، هو ماكيت القاهرة 2011 الذي يمثّل بلياردو إحدى شخصياته. عبر الدوائر الثلاث المتداخلة، يُستبدل التعاقب الزمني الأصلي للحكاية بتداخل مكاني، يجعل الحكايات الثلاث تتحقق بالتوازي... لتنهض قصّة أسرة واحدة في علاقتها بجاليري شُغل كايرو عبر ثلاثة أزمنة»، يظهرون لك كأنهم ضحايا أكثر من كونهم أبطالا، ولدينا (المسز) كما يصفها إمام؛ «إن المسز، حسب تأويلي الخاص، كالمدينة، هي الجميع، لكنها، وبالقوة نفسها، لا أحد»، وهي من وراء المشهد، تدير وتتحكم فيه، كأنها عقل العالم، وهنالك المجهول (منسي عجرم) بكتابه الغريب الذي يكتب أقدار الجميع، هي ليست أسماء إنها ألقاب بل هي رموز وعلى القارئ تفكيكها ما استطاع لذلك سبيلا. ولا عزاء للرقيب الحرفي، أمام كاتب يملك أعلى مهارات المراوغة السردية، يقول حسام إبراهيم عن رواية (لو أن مسافرًا في ليلة شتاء) لإيتالو كالفينو: «هناك قراء نصيون، وهناك قراء خارج النص، وهناك القارئ الضمني الذي يعبر عن التصور الموجود في ذهن المؤلف عن القارئ الذي يتمناه، وهناك القارئ داخل النص والماثل فيه والمشارك في صنعه، مثلما فُعل»، وسيجد قارئ ماكيت القاهرة أحدها في نفسه. تعبر الرواية عن روح التعقيد، وروح الرواية هي روح الترابط، شيء يدوم، ليربط الماضي بالحاضر. وكل شيء دائري، بداية من الزمن وانتهاء بالمكان، كتابة فانتازية في تركيب الأحداث، مع لغة فلسفية، لكنها شاعرية بوجود الكثير من الصور الموحية؛ «البيوت جميعها تضيق حين لا يعود الناس أطفالًا، لكن ضيق ذلك البيت بدا له كما لو أنه اتخذ شكلًا ملموسًا، وأكثر تجسيدًا من الأفكار. كان يشعر به مثل ثوبٍ يتضخم جسده فيه، بينما الهواء نفسه لا يزال طفلًا». الرواية دخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2022، المعروفة باسم «جائزة بوكر العربية». مقتطفات من الرواية: في مدينة كالقاهرة لن تعثر على شيءٍ مهما تطلَّعت لأعلى، كان مؤمنًا بذلك، ليس لأن السماء بعيدة، لكن، لأنك في اللحظة نفسها ستصبح جزءاً من صورة، انعكاساً على وجهٍ عملاق لشخص شهير في لافتة أو سلعة تتوسَّع في ملصق، وفور أن تهبط بنظرك من جديد، ستكتشف أنك صرت شخصًا آخر، ستتحرك كانعكاس، كطيف لا يملك حتى مَزِيّة أن يكون شبحًا، لأنك ستبقى عرضة للموت حتى وأنت غير مرئي. بدأ محاكاة القاهرة بالورق، في الطفولة يتساوى بيت من ورق وبيت من الخرسانة، وفقط عندما يكبر الناس، يكتشفون أن البيوت تُصنع من المواد التي تجعلها قادرة على حماية نفسها، وليس الدفاع عمّن يقطنونها. ليست اللغة المشتركة ما ننطق به، فاللغة تبدأ بالظهور عندما نصمت، قرأت نود هذه العبارة في كتاب لكاتب يُدعى منسي عجرم، وقد بدا صمت تلك المرأة غير مفهوم، والأعمق من صمت الغرفة الساكنة، ترجمة لعبارته، حتى إنها شعرت للحظة أن ذلك الصمت منبعث من كلماته. ثمة أشخاص يعبرون العالم دون أن ينفقوا سوى كلمات قليلة، وكأنهم يملكون مخزونًا محدودًا منها ستنفذ إن هم لم يقتصدوا في استخدامه. ينتهي الأمر بهؤلاء إلى الموت وقد خلفوا ورائهم عددًا هائلًا من الكلمات التي لم تقال. أقسى ما في المتخيل أنه يمنح كل شخص نسختهُ من الواقع، مثل ماكينة هائلة، تصنع مفاتيح مختلفةً، تفتح جميعها باباً واحدًا. هل يمكن أن ندخل جميعًا البيت نفسه، كلّ مفتاح مختلف؟ إن هذا يعني ببساطة أن لا وجود للبابِ. كثيرا ما فكر بلياردو: عندما نفقد شيئًا، فإننا نسعى بشكل لا واع لتقريب صورة ما نجا لحقيقة ما ضاع، من حيث يفترض أن نفعل العكس. وهكذا، ما أن يفقد شخصٌ ما شيئًا رغم أنفه، حتّى يبدأ رحلة منظّمة، ليفقد كلّ شيء، لكن، بإرادته هذه المرة، كأنه فطن أخيرًا أن كل ما يملكه موجود بالأساس ليخسرهُ، لا ليستبقيهُ. قبل أن تتساءل، ما الفنان إن لم يكن لصاً؟ وما الفن إن لم يكن نشلاً لشيء ما من محفظة العالم، حكاية أو صورة يعتقد أصحابها أنها ملكية شخصية، قبل أن يجردوا منها، لتصبح حكاية أيّ أحد؟ يستحيل أن تنسى شخصًا رأيت وجهه وأنت خائف، لأن الخوف يحفظ الملامح جميعها، ليقبع بطلًا مطلقًا، وطفلًا وحيدًا للذاكرة. بدءًا من اللغة، فلا دلالة دون حروف مختلفة، تشكل كلمة ثم كلمات مختلفة تشكل جملة، ثم جُمل مختلفة تشكل كلامًا أو نصًا. والقانون نفسه يمتدُّ، ليشمل الموجودات والزمن والمكان... تخيل لو أن الأشخاص جميعهم أنت أو كل البيوت بيتك. رعب المتاهة هو نفي اللغة. باكتمال ماكيت القاهرة 2011، رأت نود، وعلى عكس المتوقع، شيئًا لا تملكه المدينة التي نهض بطموح رخيص أن يحاكيها كمجرّد موضوع للفرجة، زمنه الكامل أيام معدودة، وبخلاف المدن، يعرف موعد اندثاره.
مشاركة :