فاقم الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022 من حالة التقلب وعدم اليقين في سوق الطاقة العالمي. ونظرًا إلى كون موسكو أحد المصدرين الرئيسيين للطاقة في العالم، فإن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها بعض الاقتصادات الكبرى في العالم سيكون لها بلا شك تداعيات كبيرة على حركة السوق. وفي أعقاب الهجوم مباشرة، بلغت أسعار النفط ما يزيد على 105 دولارات للبرميل، للمرة الأولى منذ عام 2014، وعلى الرغم من انخفاضها في اليوم التالي، إلا أنها ظلت عند مستوى مرتفع بلغ 98,18 دولارًا للبرميل. ومع تصاعد الأحداث، ارتفعت الأسعار مرة أخرى يوم 1 مارس، فوق 100 دولار للبرميل، مع ارتفاع سعر برميل خام «برنت» بنسبة 3.71%، ليستقر عند 101,6 دولار، وبالمثل، ارتفع سعر خام «غرب تكساس الوسيط»؛ بسبب المخاوف بشأن الأسعار العالمية والطلب. وعلى الرغم من انخفاض سعر خام برنت، إلا أنه اقترب أيضًا من 100 دولار للبرميل، ليصل إلى 99,10 دولارًا في 28 فبراير 2022. وإجمالاً، ارتفعت أسعار النفط الخام بنسبة 47% منذ ديسمبر 2021. وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي - الذي تعتبر روسيا المصدر الرئيسي له في العالم - فبعد أن ارتفعت أسعاره بنسبة 70% تقريبًا في بداية الحرب، انخفضت بنسبة 30%، بعد أنباء أن الغرب لم يستهدف قطاع الطاقة الروسي في الجولة الأولى من العقوبات. وكان لزيادة الأسعار تأثير في المستهلكين في جميع أنحاء العالم. وفي المملكة المتحدة، وصلت أسعار البنزين إلى 1,51 جنيه إسترليني للتر، وقال وزير الأعمال «كواسي كوارتنج»، إن البلاد «عرضة» لارتفاع أسعار الطاقة، لكنه أكد أن المملكة المتحدة تواجه «مشكلة أسعار»، وليس «مشكلة عرض»، حيث تأتي غالبية احتياجات طاقة الغاز الطبيعي في بريطانيا من بحر الشمال، وليس من روسيا. وقال «سيمون ويليامز»، من «شركة راك»، إنه «على الرغم من تراجع أسعار النفط إلى أقل من 100 دولار للبرميل»، فإن الأسعار في محطات الوقود «ستستمر في الارتفاع؛ بسبب شراء تجار التجزئة بأسعار أعلى بكثير». وعلقت «لويز ديكسون»، من شركة «ريستاد إنرجي»، بأن «الوضع الهش في أوكرانيا والعقوبات المالية ضد روسيا»، سيبقي أزمة الطاقة «مشتعلة»، وسعر النفط «أعلى بكثير من 100 دولار للبرميل على المدى القريب». وسلط المراقبون الضوء على أن العقوبات الغربية التي تم فرضها حتى الآن، تجنبت شل صناعة الطاقة الروسية، إدراكا أن تدفق الغاز الطبيعي والنفط من روسيا لا يزال مهمًا لأوروبا. وقالت «باتريشيا كوزمان»، و«إيان تالي»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أنه بينما شدد الغرب العقوبات ضد روسيا، فإنه «يبذل قصارى جهده للحفاظ على أكبر مصدر لواردات الطاقة في بلاده». وعلى الرغم من موافقة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وكندا على إزالة بنوك روسية من نظام سويفت للتعاملات المالية، وبالتالي، عزل أجزاء كبيرة من الاقتصاد الروسي عن التجارة العالمية؛ إلا أن شراء الطاقة مازال ممكنًا من خلال البنوك التي لم تتضرر بالعقوبات. وحول سبب عدم قيام الغرب بفرض عقوبات على سوق الطاقة الروسية، أوضح «المجلس الأطلسي»، أن «اعتماد أوروبا على الغاز الروسي»، يحد من الإجراءات الغربية ضدها. وردا على الموجة الأولى من العقوبات، علق «بن لوكوك» من شركة «ترافيجورا»، أنه «تم تصميم حزمة عقوبات إدارة بايدن، بحيث يكون لها تأثير فوري محدود في تدفقات النفط والغاز»، لكن من المهم أيضًا عدم «التقليل من مستوى العقوبة، التي تحدث في السوق ضد الشركات الروسية». وفي مواجهة احتمالية عزل قطاع الطاقة الروسي عن السوق العالمية، أوضح «آدم توز»، من «جامعة كولومبيا»، أنه نظرًا إلى أن روسيا «دولة نفطية استراتيجية، فإن جزءا كبيرا من أسواق الطاقة العالمية، لا يسمح بفرض عقوبات عليها على غرار النمط الإيراني، فضلًا عن أنه من شأن العقوبات الشاملة أن تزعزع استقرار أسواق الطاقة العالمية بشكل كبير، وإلحاق أضرار بالغة بالولايات المتحدة». ومع ذلك، فإن تردد الدول الغربية في استهداف هذا القطاع، قد يتغير بسرعة اعتمادًا على تصرفات موسكو المستقبلية. وعلقت «جين ساكي»، السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، أنه بالنسبة إلى إدارة بايدن، فإن «عقوبات الطاقة مطروحة بالتأكيد على الطاولة، لكن هناك إجماع بتقليل التأثير في السوق العالمية». واقترح «المجلس الأطلسي»، أن فكرة تصنيف صادرات النفط والغاز الروسية على أنها «سلع نزاع، يعكس المخاطر السياسية الفعلية المرتبطة بشرائها، ما يرفع أسعار الطاقة الروسية ويساعد أوروبا على تقليل اعتمادها على الغاز الطبيعي وفقًا لوضع السوق». وفي واقع الأمر، سيكون للحظر المحتمل على صناعة الطاقة الروسية، تداعيات اقتصادية خطيرة على موسكو. وكما أوضحت «باتريشيا كوزمان»، و«إيان تالي»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن الغاز الطبيعي الروسي يوفر حوالي 40% من الطلب الأوروبي، ويشكل بيع صادرات الطاقة ما يقرب من نصف إجمالي مبيعات موسكو الخارجية». وكعلامة محتملة للانفصال الذاتي عن مصالح الطاقة المتبادلة الغربية الروسية؛ بدأت الشركات الأوروبية التي لها علاقات بشركات الطاقة الروسية بقطع علاقاتها بموسكو وسط ضغوط سياسية. ومن بين هذه الشركات «شل»، و«بي بي» البريطانيتين، حيث تسعى الأولى إلى الانسحاب من مشروعات مشتركة مع «جازبروم»، التي تبلغ نحو 3 مليارات دولار، وتعلن الأخيرة عن بيع حصتها البالغة 20% في «روسنفت» الروسية، والتي وصفتها صحيفة «التلغراف»، بأنها «تحت سيطرة الكرملين». الأهم من ذلك، أن صناعة الطاقة الروسية ليست الجزء الرئيسي الوحيد من اقتصاد البلاد، الذي أفلت حتى الآن من تداعيات العقوبات الكبرى، حيث تم إعفاء قطاع الزراعة الروسية، وهي مصدر دخل كبير آخر لموسكو، من العقوبات الأمريكية. وأشار «كوزمان» و«تالي»، إلى أن «حرمان البلدان التي تعتمد على صادرات الحبوب الروسية من شأنه أن يخاطر بعدم الاستقرار السياسي في تلك الدول». وقبل الغزو، وبعد أن اعترف «بوتين»، دبلوماسيًا بجمهوريتين منفصلتين عن أوكرانيا، وأمر جنوده بإجراء مهام «حفظ سلام» في هذه الأراضي؛ أمرت ألمانيا بوقف خط أنابيب الغاز «نورد ستريم2»، الذي كان من شأنه جعل الدول الأوروبية أكثر اعتمادًا على صادرات الغاز الروسي، ما يمثل ضربة كبيرة أخرى على بقية السوق. وشهد خط الأنابيب - الذي تم تشييده بتمويل بقيمة 10 مليارات دولار من موسكو وشركات الطاقة الغربية - تراجعا من شركات النفط الكبرى عن المشاركة فيه تحت الضغط السياسي الغربي. وعلى سبيل المثال، تخلت «شل» عن مشاركتها في خط الأنابيب بعد أن أنفقت ما يقدر بمليار دولار حتى الآن، مع تصريح رئيسها التنفيذي «بن فان بيردن»، أن «تركيزنا المباشر هو سلامة شعبنا في أوكرانيا، وفي ذات الوقت دعم الشعب الروسي». وصرحت شركة «وينترشال ديا» الألمانية، التي استثمرت أيضًا 730 مليون يورو، أنها تتوقع أن يتم تعويضها عن الأموال التي أنفقتها على المشروع. من ناحية أخرى، تسمح انعكاسات العقوبات على الاقتصاد الروسي، والتداعيات طويلة المدى على صناعة الطاقة في البلاد، للدول الأخرى المصدرة للطاقة من تعزيز حصصها في السوق العالمية. وذكرت «بلومبرج»، أن السعودية «سترفع سعر البيع الرسمي للخام الخفيف إلى آسيا، من مارس إلى 4,50 دولارات للبرميل، فوق المعيار الرسمي الذي تستخدمه». وعلق «إسحاق بوتي»، من «إذاعة صوت أمريكا»، بأن صادرات الطاقة الإفريقية قد تجد متنفسًا لها من أجل زيادة إنتاجها، وتلبية الطلب العالمي على النفط الخام، وبالتالي التأثير في مسار شؤون الطاقة وأسواقها جراء الأزمة الأوكرانية. ومع ذلك، لن يكون تعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا سهلاً بالنسبة للدول الأخرى الأكثر إنتاجًا، كونها ليس لديها القدرة على زيادة إنتاجها من الطاقة على المدى القصير، لاسيما أن صادرات الغاز الطبيعي المسال في الوقت الراهن «قريبة من السعة القصوى»، وفقًا لما أشار إليه «المجلس الأطلسي». وكتب «لي سيم»، من «معهد دول الخليج العربي»، أنه رغم أن زيادة الـ10 دولارات في سعر البرميل، ستضيف 65 مليار دولار إلى عائدات الصادرات النفطية لدول الخليج، فإن الارتفاع سيُترجم إلى ارتفاع السلع التي تستوردها، تلك الدول مثل «المنتجات الزراعية، والسلع الاستهلاكية، والأدوية». ومن المقرر أن يتم مناقشة سياسات الإنتاج خلال اجتماع «أوبك بلس» المرتقب، التي لا تزال روسيا عضوًا رئيسيًا فيها؛ حيث أوضحت وكالة «بلومبيرج»، أنه رغم الضغوط المالية على موسكو، والارتفاع الحاد في أسعار النفط، من المحتمل أن تلتزم المنظمة بخطتها المتمثلة في زيادة تدريجية قدرها 400 ألف برميل يوميًا لشهر مارس 2022. وبالمثل، قال «تاماس فارجا»، من شركة «بي.في.إم أويل أسوشيتس،، أن أوبك «ستلتزم على الأرجح بتلك الزيادة»، رغم أن هذا لن يخفف حدة المخاوف للمشترين والمستهلكين». وأوضح «سيريل ويدرشوفن»، من موقع «أويل برايس»، أن هناك «انهيارًا محتملاً في ضوء الغزو الروسي لـكييف وتداعياته السلبية على أسواق الطاقة، والتعاون بينها وبين أعضاء من خارجها تُخضعها موسكو لتوجهاتها»، مشيرًا إلى أن «القادم قد يكون حاسما لمستقبلها جراء الضغوط الغربية عليها». وفي المقابل، أشارت «فيونا هارفي»، في صحيفة «الجارديان»، إلى أن «أوروبا تكثف جهودها في أنظمة الطاقة المتجددة منخفضة الكربون»؛ حيث أعلنت ألمانيا أنها تستهدف تلبية احتياجاتها من الكهرباء بالكامل من مصادر متجددة بحلول عام 2035، وتخطط لإنهاء تشغيل محطات توليد الكهرباء بالفحم على مراحل بحلول عام 2030. ومع ذلك، فإنه «لا يمكن الابتعاد عن حقيقة أن أوروبا لا تزال تعتمد على روسيا». وأوضح «كارلوس دياز»، من شركة «ريستاد إنرجي»، أنه «لا توجد مشروعات قيد التطوير يمكنها تغيير تلك الحقيقة حاليًا». لذلك، رأى «سيرجيو ماتالوتشي»، من «دويتشه فيله»، أن «الغاز الطبيعي المسال لن يكون حلاً للبلدان الأوروبية». وخلص «المجلس الأطلسي»، أن «جهود التخفيف من الاعتماد المفرط على الطاقة الروسية»، ستتطلب «توسعا في مصادر الطاقة المتجددة»، و«تطوير اقتصاد الهيدروجين»، فضلاً عن «التوسع في تقنيات الطاقة النووية». ولعل قضية زيادة أمن الطاقة الأوروبية ستكون عاملاً رئيسًا لتوجيه دفة أسواق السلع العالمية في السنوات القادمة. على العموم، من غير المرجح استعادة الاستقرار لصناعة الطاقة العالمية قريبًا مع استمرار التقلبات في أسعار النفط، إلى جانب عدم اليقين بشأن الدور المستقبلي لروسيا بأسواق الطاقة والعقوبات الغربية القادمة ضدها. ويجب توقع ارتفاع الأسعار وهزات في ميزان تلك الأسواق إذا اختارت الدول الغربية تنفيذ عقوبات أوسع نطاقا. وربما يمثل هذا السيناريو فرصة للدول الأخرى المصدرة للطاقة للحصول على حصص أكبر لصناعاتها، ولكن لا يمكن استبدال صادرات الغاز الطبيعي الروسية بصادرات من مناطق أخرى، مثل الخليج، باعتبارها ليست وسيلة مضمونة لسد الطلب. وبات هناك رغبة أكبر لدى أوروبا لتحقيق أمن الطاقة لنفسها لتتجنب تداعيات ارتفاع أسعار النفط والتوترات العسكرية.
مشاركة :