من المتوقع أن يؤثر صراع القوى الكبرى الدولية في أوكرانيا على فرص الحل في ليبيا، ففي الوقت الذي كان الجميع يرون فيه وجود دعم دولي لحكومة فتحي باشاغا المسنودة من البرلمان تغيرت اللعبة وظهرت أصوات داعمة لخصمه عبدالحميد الدبيبة وأخرى يسيطر الغموض على موقفها، فلا هي مع باشاغا بشكل واضح ولا هي مع الدبيبة، ما يتيح لها خلط الأوراق وتعطيل الانفراجة التي انتظرها الليبيون بعد عشر سنوات من الحرب. فسرت الأزمة المحتدمة بين روسيا والدول الغربية بسبب تدخل الأولى عسكريا في أوكرانيا جانبا مهما من أسباب تكالب الكثير من الدول على الانخراط في أزمات إقليمية مختلفة، فالعدد الكبير من الدول التي تتصارع سياسيا في أوكرانيا أو عليها هو نفسه تقريبا في الأزمة الليبية والتي يدور حولها خلاف مباشر أو غير مباشر. كان يمكن حل هذه الأزمة قبل أن تتفاقم فصولها وتتداخل مصالح اللاعبين فيها بصور متعددة، وربما كان من الممكن أصلا تجنب حدوثها، لكن نشبت وتصاعدت وجرى النفخ فيها لتكون مجالا لتصفية حسابات بين قوى كبرى ترتاح إلى هذه الصيغة من المواجهات، وتفضل أن تكون خارج أراضيها لتتمكن من الحفر رأسيا وأفقيا بعيدا عنها وتستطيع التعامل معها وفقا لحسابات قد تتغير بين لحظة وأخرى. ظلت الأزمة الليبية تبرد حينا وتزداد سخونة أحيانا وهي غير بعيدة عن المتغيرات التي تحدث في أزمات أخرى، إذ تحرك القوى الكبرى الفاعلة فيها رقع الشطرنج بالطريقة التي تتناسب مع مصالحها، صعودا أو هبوطا، وظهرت معالم ذلك في ليبيا، فكلما كادت تطوي صفحة قاتمة تطفو أخرى، كأن هناك رغبة دولية لاستمرارها داخل حالة دائمة من الفوران أو المراوحة. إرادة غير مستعدة اقرأ أيضاً: مبعوثو الأمم المتحدة لماذا يفشلون؟ يتأكد كل من يتابع تطورات الأزمة التي شهدت انفراجا مهما على المستوى الأمني واقتربت من انفراجة مماثلة على المستوى السياسي العام الماضي، أن الإرادة الدولية غير مستعدة لاستكمال مشوار الانفراجات حتى نهايته المنطقية. حدثت انتكاسة عقب تحديد مسار إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الماضي بسبب عدم إتمامها وكان يمكن تحاشيها لو أرادت قوى رئيسية وقف العبث بها. وتكرر المشهد أيضا بعد أن قرر مجلس النواب الليبي اختيار فتحي باشاغا رئيسا للحكومة وانتهاء مهمة حكومة عبدالحميد الدبيبة، حيث أصدرت المستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز، الجمعة، بيانا يعيد الأزمة إلى نقطة البداية بحجة القيام بوساطة لتقريب المسافات ووضع قاعدة دستورية جديدة، ما يعني بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وفتح الطريق أمام استئناف الاقتتال أو التلويح به، والتراجع عن التطمينات غير المباشرة التي قدمت لدعم باشاغا. وأصدرت خمس دول غربية هي: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وفرنسا، بيانا أيضا يؤيد خطوات ستيفاني، وزادت بالاستعداد لمحاسبة “من يهدد الاستقرار بالعنف أو التحريض” ورفع هؤلاء العصا عالية بمعاقبة من يعرقل أو يقوض استكمال عملية الانتقال السياسي “داخل البلاد أو خارجها من قبل لجنة الجزاءات الدولية”. تربط القراءة الدقيقة المقطع السابق في بيان الدول الخمس بين ما يجري في أوكرانيا وما يدور في ليبيا، والقاسم المشترك بينهما هو روسيا التي تتدخل عسكريا في البلدين، ولأن التوجهات الغربية حاليا تشحذ كل أدواتها للضغط على موسكو ومحاولة معاقبتها على تدخلها في أوكرانيا، فلن يكون مستبعدا استثمار الأزمة في ليبيا لممارسة أنواع جديدة من الضغوط على موسكو، حيث اعترفت تقارير دولية بوجود الآلاف من العناصر الأمنية التي دفعت بها شركة فاغنر الروسية إلى الأراضي الليبية. العودة إلى المربع القاتم التخلي الغربي عن الدعم المتوقع لباشاغا يصيب القاهرة بخيبة أمل، حيث كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت دعمها لحكومته التخلي الغربي عن الدعم المتوقع لباشاغا يصيب القاهرة بخيبة أمل، حيث كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت دعمها لحكومته يصعب القطع بالطريقة التي يمكن توظيفها هنا لاستهداف روسيا، لكن استمرار اشتعال الأزمة الليبية ووقف بوادر التأييد الضمني لحكومة باشاغا يعيدها إلى المربع القاتم، فالبيانات التي صدرت من السفيرة الأميركية ستيفاني ويليامز والدول الخمس والاتحاد الأوروبي بشأن ليبيا جاءت خارج السياق السياسي العام الذي أوحى بإمكانية فتح الطريق أمام تسهيل مهمة باشاغا الجديدة وانتهاء مهمة الدبيبة القديمة. يستشف من تراجع مجلس الدولة عن تفاهماته مع مجلس النواب حول خطوات خروج حكومة باشاغا إلى النور تعرضه لضغوط غربية لتعديل موقفه، أو على الأقل تركه مفتوحا على احتمال استمرار التأييد أو النكوص عنه. ويستشف أيضا من الشجاعة التي ظهر بها الدبيبة وتصميمه على البقاء ورفع راية الميليشيات عالية أنه تلقى وعودا بالصمود في موقعه، كذلك فرملة الإشارات التي أرسلت من العديد من الجهات الغربية وأوحت أن باشاغا هو رجل هذه المرحلة. ينطوي التراجع عن الخطوات التي تساعد على بدء مرحلة جديدة بأن الدول الغربية تنوي الاستفادة من الأزمة الليبية لتحقيق أهدافها في الأزمة الأوكرانية، وإذا كانت هناك فرص عديدة لممارسة ضغوط من خلالها على روسيا فالأمر يمكن أن يكون كذلك مع تركيا ودول جوار ليبيا يمثل لها هذا البلد مصلحة استراتيجية فائقة. بدأت الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية التي تدور في فلكها تنتبه إلى أهمية الأوراق السياسية والاقتصادية التي بحوزتهم لتعديل مواقف الدول التي تدعم روسيا أو تتظاهر بأنها على الحياد، فقد قررت الولايات المتحدة توفير أكبر كتلة تصويتية ضد موسكو لإجبارها على الرضوخ لمطالبها، وتوظيف جميع الأدوات السياسية كي تتمكن من حشرها في زاوية ضيقة وتبدو بلا أصدقاء أو حلفاء أو حتى متعاطفين. العزف على المصالح Thumbnail تعلم الدول الغربية أن تبادل المصالح من الأدوات المهمة في السياسة الدولية والتربيطات التي تكتنفها، ويمكن أن تظهر تجليات ذلك بشكل أكثر وضوحا في ليبيا التي تمثل فضاء رحبا لتركيا بعد أن نشرت قوات عسكرية وعقدت تحالفات أمنية واقتصادية وتريد أن يكون لها مستقبل واعد في أراضيها. أظهرت أنقرة رفضا للتدخل الروسي في أوكرانيا وأكدت دعمها للموقف الغربي انطلاقا من مشاركتها في حلف الناتو، لكنها تظل غير مضمونة ويمكنها أن تنقلب على هذه المعادلة وتقرر الانحياز فجأة إلى موسكو. ولذلك يمكن استخدام الورقة الليبية في وجه تركيا لضمان الحفاظ على موقفها الراهن، فالإغراءات والتهديدات التي تبرز من نافذة ليبيا من الوسائل التي تحافظ على جاذبية أنقرة مع الدول الغربية وتردعها عن التفكير في الانحياز إلى روسيا، لأن لها مصالح استراتيجية في ليبيا لا تريد التفريط فيها. تعطيل مسار باشاغا ودعم الانقسام بينه وبين الدبيبة بذريعة تقريب المسافات وتهيئة الأجواء ووضع قاعدة دستورية وفتح المجال أمام الانتخابات، يتضمن في ثناياه الرغبة في الاستفادة من حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي، وهي إشارات حملتها مواقف الأمم المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة أخيرا، خاصة أن جزءا من المعركة الدائرة مع روسيا تلعب فيه مسألة التكتلات النوعية والكمية دورا في ضبط توازناته. ينطبق ما يمكن استخدامه مع تركيا أكثر على مصر التي تتعامل مع ليبيا على أنها دولة غاية في الحيوية بالنسبة إلى أمنها القومي، وتسعى نحو اليوم الذي تشهد فيه أمنا واستقرارا دائمين وتتخلّص من كل ما يمثله من ارتدادات سلبية عليها، ويؤدي تعثر المسار السياسي فيها إلى عودة المخاوف من تجدد الحرب على نطاق واسع وما تحمله في أحشائها من تحديات وعرة على مصر. يصيب التخلي الغربي عن الدعم المتوقع لحكومة باشاغا القاهرة بخيبة أمل، حيث كانت الدولة الوحيدة التي أعلنت بلا مواربة دعمها لحكومته بناء على تقديرات بأنه الرجل المناسب محليا وإقليميا ودوليا في هذه المرحلة، وجاءت أزمة أوكرانيا لتقلب الأمور رأسا على عقب وتغيّر من خارطة التحالفات، وعادت الدول الغربية لتظهر إرادة باردة للتفاعل مع تسوية الأزمة من أقصر الطرق نجاعة. تنزعج القاهرة من ترك الأزمة الليبية مفتوحة على سيناريوهات سلبية، وتخشى أن تكون مدخلا لممارسة ضغوط غربية عليها لضمان عدم انحيازها سياسيا إلى موسكو، وقد تجد نفسها عرضة لمساومة بين هذا الموقف ومصالحها في ليبيا، ما يجبرها على اختيار الثانية وما تحمله من تداعيات على أصعدة مختلفة، فالفرص المحدودة قد تجبر الدول على الاختيار بين السيء والأسوأ.
مشاركة :