هناك فقط تستطيع أن تلمسها بيديك، تضبط نفسك متلبساً، حاضناً، معانقاً سماءها، ملامساً تلك الخيوط الذهبية المنبعثة من فضاء مجهول. تداعب عينيك بلا هوادة، فلا تستطيع أن تغمضهما كي لا َيُفَتك مشهداً من مشاهدها. لا تملك إلا الانتظار وسط سكون الأنفاس المتصاعدة من حولك، انتظارٌ يخلع عباءة الملل والوحدة ليرتدي أبهى ما يملك من بهجة وسعادة طفولية. هنالك فقط تعرف معنى ما قاله العبقري الراحل إيليا أبو ماضي: السحب تركض في الفضاء الرحب ركض الخائفين.. وخيوطها الذهبية تبدو خلفها صقراً، والبحر صامت فيه خشوع الزاهدين. ترى الظلام يخافها ويخضع لها، وتنحي السحب المتراكمة رافعة لها قبعة الإجلال والاحترام. هناك لا تجد إلا نفسك واقفاً منتظراً قدر اللقاء الحتمي من أعلى منصة مشاهدة في العالم، لتقف وجهاً لوجه مع لحظة تجلي وشروق شمس مدينة دبي من فوق الصرح العبقري برج خليفة. لحظة أو ومضة، أرصدها وأنقلها عبر سطور مقبلة.. إذاً، هي المرة الثانية التي أخوض فيها غمار صعود قمة برج خليفة، الذي استحق بجدارة أن يحمل لقب الوجهة السياحية الأبرز في دبي ليكون أعلى منصة مشاهدة في العالم متفوقاً في ذلك على برج كانتون بمدينة جوانزو الصينية الذي كان يحمله سابقاً، بفضل منصته التي ترتفع 488 متراً عن سطح الأرض. لا أعرف لماذا انتابني شعور بأنها المرة الأولى التي أعتلي فيها قمته، وكأن هناك ما تخفيه لي السماء لتقدم الجديد والفريد من نوعه، يمكن أن يكون التوقيت الذي تحركت فيه سيارتي وسط غيمة الليل، التي استسلمت معها لنسمة هواء تحمل ندى صبحٍ اقتربت ساعته. صوت آذان الفجر من حولك يشعرك برهبة وروحانية وقشعريرة تسري في جسدك، إذاً ثمة شيء ما ينتظرني، ويدفعني دفعاً لشق الطريق بسرعة وفضول لتلك المدينة التي أصبحت مثاراً للإعجاب في مختلف دول العالم، فبعد أن كانت قرية صغيرة يمارس أهلها الصيد والتجارة في القرن الثامن عشر، تحولت إلى أرض تحمل دائماً الأرقام القياسية، ولعل صحيفة غارديان البريطانية لم تبالغ حين قالت إن دبي مدينة شديدة الحداثة لكنها تحتفظ بسحر شخصيتها العربية الأصيلة. ويمكنك أن ترى المصلين في المساجد، والمرور على أكوام من التوابل في الأسواق، وتتجه إلى الصحراء في رحلات سفاري ممتعة، وتدخن النارجيلة العربية الشهيرة في مقاهي دبي، وتشاهد النجوم ليلاً في أكثر مناطق السماوات صفاء في العالم. لم تبالغ أيضاً حين قالت إن اسم دبي يوحي بالفخامة والترف، وأنها مدينة لا يمكن أبداً التخلف عن زيارتها. أفقت من حالتي لأجد نفسي أقترب من هذا الصرح الشامخ، الذي سجلت منصته الشاهقة رقمه القياسي الرابع في موسوعة غينيس بعد أن حصد ألقاب أطول مبنى في العالم، وأطول مبنى شيده الإنسان على مر التاريخ، وأعلى مطعم في العالم. ها أنا أقف على أعتاب بوابة دبي مول التي بمثابة المفتاح الذي فتح لي أبواب برج خليفة، منها دخلت وبيسر وبسهولة وجدتني أقف أمام بواباته الضخمة مع الكثير من الزوار الذين انتظموا بدقة شديدة في أماكن حجز تذاكر الصعود ليشهدوا، وأشهد معهم، لحظة شروق الشمس من فوق قمة برج خليفة. بيينج بينج، كان يقف إلى جانب مجموعة من أصدقائه، منتظراً المصعد الذي سينقله إلى الضفة الأخرى من المجهول، هكذا وصف لي رحلته المنتظرة إلى قمة البرج. يقول: هكذا أراه كلما نظرت إليه من الخارج، والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي أصعد فيها برج خليفة، بل هي الثالثة، ولكنها الأولى التي أشهد فيها لحظة الشروق، وبالتأكيد سيكون في انتظاري كثيراً من المفاجآت، خصوصاً أنني من أشد المعجبين والمتابعين لرحلة بنائه منذ اللحظة الأولى، وفي كل مرة أخوض غمار تلك التجربة أشعر بأنها الأولى لي، ويكفي أنني أعتلي أعلى منصة في العالم، هذا في حد ذاته مغامرة. حين انتهى بينج من حديثه، لم أكن على استعداد أن أستمع إلى أي صوت آخر سوى صوت دقات قلبي، التي شعرت بأنها ستصل إلى مسامع الجميع. لقد حانت اللحظة الحاسمة التي تخطو فيها قدماي نحو المصعد المنشود الذي سيصحبني في رحلة إلى أعالي السماء. ها هو الضغط يزيد لكي يغلق أذنيّ، وبين لحظة وأخرى تحدث المفاجأة، وإذا بباب المصعد يفتح معلناً وصولي إلى أعلى منصة في العالم.. قمة برج خليفة. تبدو صغيرة مرصوصة البنيان بدقة، تدفعك دفعاً لحالة من حالات الاستسلام لجمالها الذي يخطف العقول قبل الأبصار، ذلك أول انطباع يرتسم في ذهنك ويغزو مشاعرك ما إن تقع عيناك على مدينة دبي من فوق تلك القمة الساحرة. كان الليل لا يزال يسدل ستائره على أجوائها بينما كانت هي كجوهرة ماسية براقة تلمع في عرض السماء. إحساس يقودك بأنك لا محالة تقف أمام أيقونة نحتتها أيادٍ فنانة عبقرية تخفي وراء أبوابها مزيجاً من الاتساع، والعطاء، والظلال، والأسرار، لتتباهى بين صور جدران معرض ضم العديد من اللوحات الفنية. تنظر إلى الأسفل فتجدها تحتضن رمالها الناعمة لتغازل بريق خلجانها، ترى أشجار النخيل مصطفة كأنها في عرض عسكري منتظم، تعانقها شجيرات الزهور متدثرة بألوان الطيف، ويداعب كل ذلك أضواء براقة امتزجت مع الخليج، أنظر بعمق أكثر لأجدها تلمع تحت الأضواء التي بدت تخفت تدريجياً لاستقبال النور الرباني، إنها بحيرة دبي فاونتن التي تضم أكبر النوافير الاستعراضية في العالم، والتي تعتبر من أبرز الوجهات والمعالم السياحية في المدينة. كم هي صغيرة من الأعالي تلك التي تمتد بطول أكثر من 900 قدم (275 متراً)، وتضخ المياه إلى ارتفاع يصل إلى 450 قدماً في الهواء، أي ما يعادل ارتفاع برج مؤلف من 45 طابقاً تجدها صغيرة تكاد لا تعرفها إلا من الأضواء التي ترقص بخفة متهادية على صفحات البحيرة. ها هي اللحظة الحاسمة تقترب، تلك التي قطع من أجلها هذا الكم البشري أميالاً من خارج الإمارات لكي يشهدوها، أو أولئك الذين كلفوا أنفسهم عناء الاستيقاظ مبكراً، أو حتى عدم النوم لكي يكونوا فوق قمة برج خليفة في التوقيت المحدد لشروق الشمس. ها هو يبدأ في الانحسار والتلاشي معلناً احتضاره، مستسلماً لنهايته، ذاك الظلام الذي يسمح للنجوم أن تتعانق معه، لكنه أبداً يأبى أن يجتمع مع نقيضه الذي يخشاه بل وينحني له تقديراً. ها هي خيوطها الذهبية المائلة للون الأحمر الوردي تغزو كتل السحاب الضخمة المتراكمة فوق بعضها، بخفة ورشاقة وجمال وإبهار وحكمة وقدسية، تجد تلك الخطوط الرفيعة تغزو ذاك الكم الأبيض الثلجي ليصنعا ويمزجا سوياً لوناً لا يوصف من الثلج الوردي الحامل لكل ألوان الطيف السبعة، مشهد تعجز تلك الحروف الصغيرة عن وصفه، كيف لي أن أصف وأرصد كل هذا الكم من الجمال؟ فقط كلمة تجدها تنساب من بين شفتيك: سبحان الله. لم يكن ممكناً أن أخترق الواقفين الراصدين المتابعين المصورين لتلك اللحظة البديعة الأسطورية من أعالي برج خليفة، لكي أسألهم عن انطباعاتهم، فحالة الذهول والصمت والتأمل والسكون التي انتابت المكان على الرغم من كم الموجودين الذي لا يوصف، تجعلني أصمت وأتأمل وأتابع وأنتظر لحظة أن يتوسط قرص الشمس السماء، وهي نفس اللحظة التي يهم فيها الزائرون بالهبوط إلى الأرض مرة أخرى. كان يستعد للمغادرة ويجمع أدوات تصويره، فاستوقفته لأسأله عن رؤيته لتلك التجربة. اسمي عبد الله الزعابي، هاوٍ للتصوير، هكذا عرفني إلى نفسه. يقول: أتيت من مدينة أبو ظبي من أجل أن أشهد تلك اللحظة العبقرية، ولا أخفيكِ سراً أنني لم أنم، ويا لها من متعة متميزة أن أشعر بالتعب من أجل أن أحصل على منظر يغسل كل الهموم. يضيف الزعابي: لأنني أعشق فن التصوير، فلم يكن ممكناً أن أضحي بحضور تلك اللحظة لبعد المسافات. انظري جيداً لمن حولنا، ستجدينهم من السائحين الذين قطعوا آلاف الأميال من أجل مشاهدة تلك اللحظة من فوق أعلى منصة مشاهدة في العالم، شيء يدعو للفخر. لقد أحسست بالزهو والفخر لأنني مواطن إماراتي، وفي وطني كل هذا الزخم من الأماكن السياحية المتميزة والمتفردة، والحقيقة أن مجرد صعود برج خليفة شيء يستحق التأمل والوقوف عنده طويلاً، فما بالك برصد وتصوير تلك اللحظة الربانية الفريدة من نوعها، وهي إشراقة يوم جديد من على قمة هذا البرج. الحقيقة أكرر أنني فخور وسعيد وسأكرر تلك الزيارة مرات عديدة، وكلي ثقة أن مع كل جولة فوق أعالي البرج سأرى كل ما هو جديد ومتميز ومختلف. نيرا علي، الهندية الجنسية والمقيمة في الإمارات منذ طفولتها، تقول: صعدت إلى قمة البرج كثيراً، والتقطت العديد من الصور الفوتوغرافية، بل وصنعت بعض الأفلام القصيرة التي روجت لها في إحدى القنوات الفضائية الهندية، ولم يكن ينقصني سوى تصوير لحظة الشروق خصوصاً أنني صورت لحظات الغروب، والحقيقة أنني شعرت بمتعة ذهنية روحانية لا توصف، رؤية الشروق من الأعالي يمنحك قوة الإحساس بقيمة النور والحرية والحب وحتى قيمة الوطن، الشروق يعني الأمل والحياة، إحساس لا يمكن أن يشعر الإنسان به سوى من خلال وقوفه على منصة المشاهدة من أعلى برج في العالم. مريم شهروز، طفلة صغيرة كانت تقف إلى جانب أخيها الأصغر لمتابعة المشهد، اقتربت منها لأسألها عن انطباعاتها، فأجابت بطفولية شديدة: أعجبتني الشمس وأحببت انتصارها على السحاب، ورأيت دبي صغيرة جداً من فوق، ولكن ما يشغلني هو الشمس، تُرى أين كانت تبيت ليلتها؟ الحقيقة لا أريد النزول من برج خليفة، ولكن والدي يصر على ذلك، ووعدني أن يصحبني مرة أخرى للصعود إليه، ووعدته أن أحصل على درجات عالية في اختباراتي في المدرسة، لكي يحقق لي حلمي بزيارة البرج مرة أخرى. فلونج تاو، كان آخر الوجوه التي اختتمت بها رحلة هبوطي من أعالي برج خليفة، حين قال لي في دقيقتين، هما الوقت الذي قطعناه سوياً في المصعد: زيارة أسطورية، لا يمكن للمرء أن ينساها، كلما رأيت لحظة انطلاق الشمس من الأعالي زاد إحساسي بضآلة الإنسان.
مشاركة :