لا جدال في ان الصين تحولت في وقتنا الراهن إلى قوة مؤثرة ونوعية لها كلمتها الجازمة والحاسمة في شأن مجموعة من القضايا الدولية. وبطبيعة الحال، جاء ذلك ثمرة خبرات ومراكمات وجهود كبيرة بذلتها في مختلف المجالات، واستطاعت في ظلها النجاح وتحقيق قفزات نمو وتطور فاعلة. إن الصين لم تكن يوماً قَـط ممن يتجاهلون دروس التاريخ، وهي الآن تختار اتباه نهج سياسي ذكي في خضم حرب باردة ثانية وليدة. وقد تتسبب الشراكة الترادفية بين الصين وروسيا في تحويل توازن القوى العالمي في وقت تعاني أمريكا من الضعف بشكل خاص. وبطبيعة الحال لا يخطئ القارئ الذكي واقع أن هناك تحالفاً استراتيجياً وشراكة حيوية بين الصين وروسيا خاصة إزاء واقع الحرب التجارية والتكنولوجية. هذا الزواج الجديد مناسب من الناحيتين الاقتصادية والجيوستراتيجية. فروسيا لديها الغاز الطبيعي الذي تحتاج إليه الصين المتعطشة للطاقة. والصين، بما تتمتع به من مدخرات فائضة، وقدر وفير من رأس المال الأجنبي، فضلاً عن مبادرة الحزام والطريق التي تلقى تعاوناً وقبولاً كبيراً لما تحققه من جدوى عالمية. والزاوية الجيوستراتيجية مقنعة بذات القدر. الواقع أن البلدين مقتنعان، بأن الولايات المتحدة تسعى إلى احتواء صعودهما السلمي المفترض. ولا تكتفي الصين بالإشارة إلى الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والعقوبات المفروضة على شركات التكنولوجيا الصينية الرائدة. بل تشير أيضاً إلى شراكة طموحة عبر المحيط الهادئ استبعدت الصين (والتي تحولت منذ ذلك الحين إلى الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ). وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، أنشأت أستراليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة ما يسمى الاتفاقية الأمنية الثلاثية AUKUS، والتي تستهدف الصين بوضوح تام. تسوق روسيا حجة مماثلة في مقاومة احتواء الولايات المتحدة لها. ونرى الكثير من المبادرات الغربية والأفعال التي ترمي إلى تطويق نشاط روسيا ومشروعاتها في مناطق كثيرة بأوروبا. لا يترك البيان الصيني الروسي المشترك الصادر في الرابع من فبراير من هذ العام في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية ببكين، أي مجال للشك في أن البلدين مُـجمِـعان على رأي مفاده أن أمريكا تعترض طريق مشروعاتها ونشاطاتهما الكثيرة. ونجد هنا مواقف مهمة ولافتة للبلدين في مناهضة حلف شمال الأطلسي والذي يرى البلدان انه يحد من حرية تحركاتهما ويمارس دورا غير مجد للعالم أجمع. ليس هناك من شك في أن الصين وروسيا احتضنتا لعبة المثلث كمناورة استراتيجية. من قبيل المفارقات أن الولايات المتحدة، على النقيض من زمن الحرب الباردة الأولى، هي الطرف الذي تُـمـارَس ضده مناورة المثلث الآن. وكما كانت الحال في السابق، فهناك سبب وجيه يجعلنا نعتقد أن النهاية ستتحدد في الساحة الاقتصادية. هنا تصبح المقارنة بين الحربين الباردتين مثيرة للقلق بشكل خاص. فمنذ عام 1947 إلى عام 1991، كان اقتصاد الولايات المتحدة متوازناً وقوياً. على النقيض من ذلك، على مدار العقد المنصرم، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (1.75) ومكاسب الإنتاجية (1.1%) عند نصف معدلهما المتوسط خلال فترة السنوات الأربع والأربعين السابقة. والمقارنات الأخيرة أسوأ حتى بالنسبة للادخار المحلي، والحساب الجاري، والعجز التجاري الهائل في أمريكا. انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة الأولى ليس فقط لأن اقتصادها كان قوياً، بل وأيضاً لأن خصمها كان فارغاً. فبدءاً من عام 1977، تباطأ نمو نصيب الفرد في الناتج في الاتحاد السوفييتي بشكل كبير، قبل أن يسجل هبوطاً شديداً بمعدل بلغ 4.3% سنوياً في المتوسط في العامين الأخيرين من الحرب الباردة. كان ذلك نذيراً بانهيار اقتصادي لاحق لـخَـلَـف الاتحاد السوفييتي. وبالفعل، خلال الفترة من 1991 إلى 1999، انكمش اقتصاد الاتحاد الروسي بنسبة 36%. اليوم، يواجه الاقتصاد الأمريكي الأضعف الصين الصاعدة، على عكس الـصِـدام السابق بين أمريكا القوية والاتحاد السوفييتي المترنح. وليس من المحتمل فضلاً عن ذلك أن يتضاءل نفوذ الصين بفعل روسيا، التي تلعب دوراً في الاقتصاد العالمي. في عام 2021، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني ستة أضعاف مثيله في روسيا، ومن المتوقع أن تزداد هذه البيانات والوقائع اتساعاً في السنوات المقبلة. بيد أن روسيا والصين، كل منهما معاً، يعيطان الفرصة لأرضية شراكة استراتيجية خصبة وفريدة بينهما، عبر جملة شراكات في ميادين كثيرة، على رأسها الطاقة والاقتصاد، ذلك بهدف تعزيز حضورهما القوي، والتصدي للتحالف الغربي وصرف تركيز أمريكا الاستراتيجي بعيداً عن استراتيجية احتواء الصين. من منظور الصين، يترك هذا الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام صعود الصين إلى مكانة القوة العظمى، وتحقيق وعد التجديد الوطني المبين في «حلم الصين». في أواخر عام 2019، حذر كيسنجر من أن الولايات المتحدة والصين تقفان بالفعل على «سفوح حرب باردة جديدة». ومنذ ذلك الحين، ازدادت الحبكة إحكاماً مع ظهور استراتيجية المثلث الجديدة. الحق أن تحركات وأنشطة الصين وروسيا في الفترة الأخيرة، بدت قوية ومؤثرة، وهي بلا شك تعزز الاستنتاج بأن هذه الحرب الباردة ستكون مختلفة تماماً عن الحرب السابقة. * عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مجلس إدارة مورغان ستانلي آسيا سابقاً، وهو مؤلف كتاب «علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أمريكا والصين» (مطبعة جامعة ييل، 2014)، والكتاب المرتقب «صراع غير مقصود». طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :