اليوم العالمي للمرأة، والذي يتم الاحتفال به في الثامن من مارس في جميع أنحاء العالم، كان لأكثر من قرن يوماً لتسليط الضوء على محنة النساء، وخاصة الأمهات، ومكان العمل والنضال من أجل الإصلاح. ومع مرور السنوات، استخدمت النساءُ هذا اليومَ للمساعدة في الفوز بامتيازات في مسائل مثل تحديد خمسة أيام و40 ساعة عمل فقط أسبوعياً، وقوانين عمل الأطفال، وقوانين السلامة، والحد الأدنى للأجور. لكن في الآونة الأخيرة، وفي أميركا تحديداً، انفصل هذا اليوم عن جذور تاريخ العمل وتحوَّلَ إلى مناسبة للاحتفال بشكل عام بالنساء والفتيات في حياتنا على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يتم الوفاء بالوعد الكامل للحركة العمالية النسائية، وخاصة في مسائل مثل الحصول على عطلة عائلية مدفوعة الأجر وتوفير رعاية أطفال ميسورة وأجور عادلة. وتذكِّرنا مطالب أكثر من قرن بضرورة استحضار النساء لهذا التاريخ وقوة الخروج إلى الشوارع في هذا اليوم العالمي للمرأة. أعلن الاشتراكيون الأميركيون اليوم الوطني الأول للمرأة، مع التركيز على حقوق العمال والحق في التصويت. ونُظمت المناسبة في مدينة نيويورك عام 1909، يوم الأحد الأخير من شهر فبراير حتى تستطيع النساء العاملات المشاركة فيه . وألقت شارلوت بيركنز جيلمان، وهي ناشطة نسوية واشتراكية ومؤلفة مرموقة، خطاباً طالبت فيه بحرية النساء وبمنحهن نفوذاً خارج نطاق المنزل. وجاء في كلمة جيلمان: «صحيح أن واجب المرأة يتركز في منزلها وأمومتها، لكن المنزل يجب أن يعني البلادَ بأكملها». ووضع الاحتجاجُ حجرَ الأساس لأكبر إضراب للعاملات في الخريف التالي. ففي التاسعة من صباح بارد في نوفمبر 1909، خرج آلاف عاملات الملابس من متاجرهن في مانهاتن وبروكلين وبرونكس ونظمن مسيرةً إلى مقر نقاباتهن في 151 شارع كلينتون. وتضمنت مطالبهن تقليص ساعات العمل إلى 52 ساعة في الأسبوع، وأجوراً أعلى، والقضاء على الانتهاكات في مقر العمل، مثل ظروف العمل غير الآمنة، وما فهمنا لاحقاً أنه تحرش جنسي. وواصلت النساء الإضراب، واصطحب كثيرات منهن أطفالهن، حتى تفاوضت متاجرهن المفردة مع العاملات. وحُسمت «انتفاضة العشرين ألفاً»، كما اشتهرت بهذا الاسم، في أيام أو أسابيع غالباً، محققةً درجات متفاوتة من النجاح. وكتبت روز شنايدرمان، زعيمة العاملات، تقول إنها حثت عمال مصنع «تراينجل شيرتويست» على الإضراب، لكنهن لم يستجبن. بيد أنه في 25 مارس 1911 أدت الظروف غير الآمنة في المصنع إلى اندلاع حريق هائل ومقتل 146 عاملاً. ومع ذلك فما من شك في أن انتفاضة العشرين ألفاً حالت دون وقوع مآس أخرى مثل هذه، وأبرزت النساءَ كقوة نافذة وصامدة يُحسب لها حساب حين يشاركن في احتجاجات بأعداد كبيرة. وفي عام 1910، اقترحت الاشتراكية الألمانية كلارا زيتكين وضع ميثاق ليوم المرأة العالمي في مؤتمر اشتراكي دولي في كوبنهاجن، وافق عليه مندوبو 17 دولة بالإجماع. وفي العام التالي، شاركت أكثر من مليون امرأة في هذه المناسبة ليغمرن الشوارع في جميع أنحاء أوروبا وطالبن بحقوق سياسية وعمالية. وعلى مدار العقد التالي، أصبح اليوم العالمي للمرأة مناسبةً للاحتجاجات ضد الحرب الإمبريالية الصاعدة في أوروبا، وفي عام 1917، طالبت النساء الروسيات بـ«السلام والأرض والخبز». وساعدت هذه الاحتجاجات على اندلاع الثورة الروسية وفي انتزاع حق المرأة في التصويت والترشح للمناصب في العام نفسه. وطوال القرن العشرين، ظل الثامن من مارس يلهم الاحتجاجات من أجل حقوق المرأة، العمالية والسياسية، في جميع أنحاء العالم. وفي ظل التهديد بالاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقتل، تركت النساءُ في إيطاليا المحتلة من طرف النازيين في عامي 1944 و1945 المصانعَ والمنازلَ بأعداد حاشدة، وطالبن بتحسين الأجور وبعطلة أمومة وبرعاية الأطفال وإنهاء استحواذ ألمانيا على السلع الإيطالية الصنع. وحتى الفاشيون رضخوا لقوة هؤلاء النساء، وقلصوا ساعات عملهن، وقدموا لهن حساءً ساخناً ووقود تدفئة حتى يستمررن في العمل. ولعبت النساء العاملات دوراً فعالاً في جهود الحلفاء الحربية، ولعبت مبادراتهن التنظيمية دوراً في الانتصار في الحرب. وساعدت القيادات العمالية الإيطالية، مثل بيانكا جيديتي، في تنظيم العاملات في المصانع لمواصلة دعم الجنود المناهضين للفاشية والنضال من أجل حقوق المرأة خلال العام القاسي الأخير من الحرب العالمية الثانية. وفي كثير من مدن شمال إيطاليا، بلغت هذه الجهودُ ذروتَها بحمل النساء السلاحَ وتأمين المصانع خلال المعارك الدموية الأخيرة ضد ألمانيا مع تقدم قوات الحلفاء. ومنحت هذه المشاركات، المنظمة حينذاك، النساءَ سلطةً سياسية في الحكومة الإيطالية الجديدة. وفي أعقاب الحرب، تحقق للنساء التمثيل السياسي والانضمام للنقابات العمالية ومساعدات رعاية الأطفال والأجور الأكثر إنصافاً. وفي الثامن من مارس، حملت النساء الإيطاليات «الميموزا» وهي زهرة صفراء تظهر في مطلع الربيع كرمز لـ«التضامن مع النساء في جميع أنحاء العالم». وحتى اليوم، تحتفل بلدان كثيرة بالنساء والأمهات في هذا اليوم بالزهور، وأيضاً باحتجاجات سنوية من أجل المساواة في الحقوق والأجور الأفضل. وعلى الرغم من هذه الشعبية العالمية، لا تحتفل الولايات المتحدة باليوم العالمي للمرأة إلا شكلياً. وهذا بسبب ارتباط المناسبة بالقيم «الاشتراكية» التي تُعتبر متعارضةً مع الفردية الأميركية. وصح هذا بشكل خاص في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حين حدث انقسام ضار، بسبب الحرب الباردة، بين الحركات النسوية والحركات العمالية النسائية في أميركا. وضعفت الروابط بين المدافعات الأوائل عن الحقوق النسوية، وهن نساء من جميع الطبقات يناضلن من أجل حق التصويت وحماية حقوق العمال معاً. وحين عاد التيار الرئيسي من الحركة النسوية إلى الظهور في ستينيات القرن الماضي، تخلى عن كثير من النساء الداكنات البشرة وعن نساء الطبقة العاملة. لكن هذا التيار ناضل لاحقاً في سبيل احتواء هؤلاء النساء. وتسعى كثيرات من المدافعات عن حقوق النساء اليوم لتحقيق التلاقي في المصالح بغية تصحيح هذه الأخطاء. بيد أن جائحة كورونا ألقت الضوء على الطريق الطويل الذي يتعين على الولايات المتحدة السيرَ فيه لدعم العاملات، والأمهات منهن بخاصة. الولايات المتحدة يروقها الاحتفال بالأمهات في شهر مايو، بالزهور ووجبات الفطور والغداء وغيرها من المظاهر غير السياسية المماثلة. وتحتفل بيوم المرأة العالمي على وسائل التواصل الاجتماعي غالباً. لكنها تجاهلت إلى حد كبير التحولات الحقيقية في السياسة التي تبناها بقية العالم. وأبرزت التحديات الحديثة حول الأمومة والعمل شدة ترابط هذه القضايا. ويوم المرأة العالمي يقدم فرصة لمعالجة قضايا مثل عدم كفاية رعاية الأطفال وسوء الحماية في أماكن العمل، وضعف الأجور، والافتقار إلى حماية حق التصويت. الثامن من مارس يجب أن يكون مناسبة للعودة إلى التاريخ الحقيقي ليوم المرأة العالمي في الولايات المتحدة، كما بدأ عام 1909، في مدينة نيويورك حيث ناضلت العاملات والأمهات في الشوارع من أجل التغيير. أستاذ بجامعة نيويورك ومؤلفة كتاب «التعطش للسلطة.. نساء حزب النمر الأسود وصيف الحرية» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
مشاركة :