على الرغم من مرور ما يقارب القرن ونصف القرن على نشر الملحمة الروائيّة العالميّة (الحرب والسلام) (1865) للروائي الروسي ليو تولستوي، فإنَّ هذه الرواية بالذات تُعد من أهم كلاسيكيات كتابة الحرب الروائيّة. وعلى الرغم من طابع السَّرد التوثيقيّ التاريخيّ لرواية أرَّخت حياة المجتمع الروسي على تنوُّع طبقاته إبان اجتياح قوات نابليون العسكرية العاصمة القيصرية موسكو في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، فإنَّ التخيّل التاريخي يشغل حيزًا مهمًا في الحبكة السردية، ولكي يصنع تولستوي سرديته الكبرى هذه لجأ أولاً إلى استقصاء تاريخي شامل لعشرات الكتب التاريخيّة التي أرَّخت الحروب النابليونية في أوروبا وفي روسيا وحرب القِرم، كما قرأ كذلك كتب السير الذاتية لمعاصري تلك الحقبة التاريخيّة المفصلية بما في ذلك سيرة نابليون بونابرت إلى جانب عشرات من مقابلات شهود العيان على تلك الحرب الذين التقاهم تولستوي، ودوَّن شهاداتهم التاريخيّة. لقد اشتملت هذه الملحمة الروائيّة (الحرب والسلام) على أكثر من ستة آلاف صفحة، وفيها قرابة مائة وستين شخصية مرجعيّة تاريخيّة. وفي الحين الذي اعترف فيه تولستوي بأنَّ روايته الأولى هي (أنا كارينينا) التي جاءت تالية للحرب والسلام؛ بسبب اندراجها في القوالب الأوروبيّة الروائية في الحين الذي تمردت فيه روايته (الحرب والسلام) على تلك التقاليد الروائيّة؛ وبالتالي خرقت السّنن الروائي السائد آنذاك. يقول تولستوي عن روايته: «ما كتاب الحرب والسلام برواية، ولا هو بقصيدة، ولا هو بسجل وقائع تاريخيّة. إنَّ الحرب والسلام هو ما أراد المؤلف وما استطاع أن يعبِّر عنه في هذا الشكل الذي عبَّر به عنه». إنَّ ثمَّة تقنيات سردية مراوغة في هذه الرواية منها ذلك التضاد اللغوي بين اللغة الروسيّة التي تكون تمثيلاتها في الرواية لغة الصدق والأمانة في مقابل اللغة الفرنسيّة التي تكون تمثيلاتها الثقافيّة بأنَّها لغة المكر والمخاتلة والمراوغة في طباق لغوي روائي. كما أنَّ هناك فقرات مطوَّلة في الرواية لشخصيات روسية أرستقراطية ناطقة باللغة الفرنسيّة؛ ويمثل الإقصاء المتصاعد في الرواية للغة الفرنسية لإظهار تحرّر روسيا من الهيمنة العسكرية الفرنسية، وهو ما يتوازى روائيًا مع هزيمة نابليون التاريخيّة الكبرى وانهيار جيشه في السيطرة على روسيا في خاتمة الرواية. إنَّ الأمثولة الكبرى التي تصدر عنها رواية (الحرب والسلام) لتولستوي هي تعرية الذات البشرية في اللحظات التاريخيّة المفصلية الكبرى. إنَّ الحرب إيغال في توحش القوة، ومعادلة صعبة بين الحتمية التاريخيّة والإرادة الإنسانية والضعف البشري. تصنع الحرب سردياتها الكبرى التي تضمحل أمامها الذوات البشرية إلى حدّ الانشطار وربَّما التلاشي. إنَّ هذه الرواية يجب أن تُقرأ وتُستنطق بعمق! { أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :