فاتنةٌ هي الحياة، رائعةٌ بكل تفاصيلها، حين تنتظمُ في عقولنا وقلوبنا، كغيماتٍ من الأحلام والأفكار. عن نفسي، لا أستطيعُ أن أفتح عينيَّ صباحا، وليس لديّ مشروع لحلم صغير، أحقّقه في ساعات يومي. أما العُمر بأكمله، فهو أحلامٌ اصطفّت بجوار بعضها، في صف طويل منتظم، وكل واحد منها ينتظر ندائي ليغادر عالم الأمنيات، ويدخل عالَم الحقيقة. بلا أحلام، تغدو الحياة ضرباً من العبث، ومغامرة محفوفة بالمخاطر غير المتوقَّعة، وسيرا إلى المجهول بخطّة لا وجود لها، مع كثير من الفوضى، والفوضى فقط. هنا تعود بي الذاكرةُ إلى سنين الدراسة، وما زالت الدهشةُ تتملّكني من أحد أصدقائي، حين جلسنا ذات فُسحة إفطار، نتحدثُ بدون سابق موعد، عن أحلامنا بعد الشهادة الثانوية، ويدور الحديثُ فيما بيننا، وتُغلِّف الحيرةُ أحلامَنا، إلا أنّ هذا الصَّديق المتّقد ذكاءً ونباهة، بادرنا بالقول وعن ثقة مُطلقة: أما أنا فسأصبحُ طبيب أطفال. هكذا كان الصديقُ يرى حلمَه ماثلاً أمام عينيه، وأعتقدُ يقيناً أنه كان يقول لنا ذلك الكلام، وهو يتخيّل نفسَه مرتدياً معطف الطبيب الأبيض الناصع. ما الذي حدث بعد ذلك؟ مضت الأعوام، ودخل صاحبي كلّية الطب، متخصّصاً في طب الأطفال، ثم تخرج من الكلّية، وهو اليوم من ألمع أطبّاء الأطفال في المملكة. الأحلام لا علاقة لها بالأوهام، الأحلام تصورٌ واضح وخطّة مكتوبة لمستقبل نتأمّله، إنها خارطة طريق واضحة المحطات ومرسومة المعالم، يمضي من خلالها الإنسانُ نحو أهداف محدَّدة بعناية، مع حساب المكسب والخسارة، وتوقُّع المعوّقات، وإيجاد الحلول والطُّرق البديلة. كل ذلك ليس رجماً بالغيب، بل هو في بداية الأمر ومنتهاه، يمضي وفق مشيئة الله تعالى وتدبيره، وعِلمه الذي وسع كلَّ شيء، ودور الإنسان الأساسي في تلك المشيئة الإلهية، هو عمارةُ الأرض، وهذا الأمر لا سبيل إليه، إلا بجرعات يومية من الجِدّ والعمل، مقرونةً بالكثير والكثير من التفاؤل والأمل. كم ينشغلُ أحدُنا بطول الطريق، ولو أنه جعل من ذلك الطريق رحلةً ممتعة، واستعدَّ لها بوضوح الخريطة وموفور الزاد؛ لسعِد وأسعَد مُرافقيه. وكم يستبعد الإنسانُ بزوغَ ضوء الفجر، وكأنه لا يعلمُ أن أشدَّ ساعات الليل ظلمة، تلك التي يعقُبها طلوع الفجر. حياةُ الإنسان تُشبه البيت، فإذا أُغلقت نوافذُ البيت تناقصت فيه كميةُ الأوكسجين، وبدا على سكّانه الضيق والاختناق، كذلك هو الإنسان، فإذا ما أَغلق نوافذَ روحه ومِخياله عن الأحلام؛ تحوّلت حياتُه إلى مجرد وقت يقطعه كيفما صار واتفق، حتى انتشر بين شريحة كبيرة من الشباب قولُ أحدهم لصاحبه: تعالَ بنا نضيّع الوقت. ويا لها من دعوة إلى التهلكة والانتحار المجّاني، هنا بات لزاماً على الأُسرة والمدرَسة، أن تُشيع ثقافةَ تنظيم الوقت وصناعة الأحلام، ودعمها في عقل الطفل منذ الصغر، حتى يغدو شعاره: أنا أحلُم، إذًا أنا موجود.
مشاركة :