ثمة تغيرات جديدة صارت واضحة على خارطة البرامج التلفزيونية في عدد من القنوات المصرية تتمثل في زيادة المنابر الخدمية التي تستهدف توصيل صوت الجمهور إلى دوائر صناعة القرار والمسؤولين في المؤسسات الحكومية، مقابل تراجع نسبي في البرامج التي تتحدث عن الشأن السياسي العام. وعاد الإعلامي جابر القرموطي إلى المشهد قبل أيام بتقديم برنامج “مانشيت” على فضائية “سي.بي.سي”، وصار يركز على الشق الخدمي والجماهيري بشكل أكبر، فيما هناك برامج أخرى تدور في الفلك الصحافي، مثل “بالخط العريض” و”في المساء” و”إدي (امنح) العيش لخبازه” و”صالة التحرير”. ويرتبط التراجع الحاصل في البرامج السياسية بقلة الحراك الحزبي، وحتى مجلس النواب الذي يهتم بالقضايا العامة يبدو صوته خافتا كمؤسسة متناغمة مع الحكومة في أغلب الأحيان، وأصبح بعيدا نسبيا عن التبني الحقيقي لوجهات نظر الشارع. وأصبحت البرامج الحوارية وما يعرف بـ“التوك شو” الليلي أقرب إلى نشرة يتعرف من خلالها المشاهد على ما جرى طوال اليوم على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، دون التطرق إلى المشكلات التي يعاني منها المواطن العادي، حتى وصلت القطيعة بين الجمهور والإعلام إلى مستوى مرتفع تطلّب تدخلا من القائمين على إدارة المنظومة. وتبدو الاستعانة ببرامج اجتماعية مرتبطة بحاجة الجهات المسؤولة عن الإعلام إلى استعادة الجمهور الذي هجر منابرها ولجأ إلى منصات التواصل الاجتماعي كي يصل صوته سريعا إلى صناع القرار ويحصل على ما يريده من معلومات مرضية له، ولذلك بدأت بعض القنوات تتوسع في إطلاق برامج ذات صبغة خدمية حاليا. وتقوم فكرة البرامج الخدمية على تلقي شكاوى الجمهور من مشكلة بعينها ونشر محتواها على الهواء مباشرة أو قراءتها ثم الاتصال بالمسؤول المختص لحلها، والسعي للتعامل معها بجدية، سواء أكانت خاصة أم عامة، ويتم فسح المجال أمام المشاهدين للتعبير عن آرائهم بشأن خدمة ما أو شكوى بعينها، وبث تعليقاتهم السلبية لتوصيل وجهات نظرهم إلى دوائر حكومية. وهناك نوعية أخرى من البرامج الخدمية تقوم على فكرة توصيل الاستغاثات إلى الحكومة، مثل الشكوى من ارتفاع أسعار السلع والخدمات وسوء خدمة مرفق بعينه في منطقة ما، ويتم استقبال الرد من المسؤول وتعميمه على الجمهور، وهو ما كان الإعلام يفتقده من قبل حيث اصطف خلف الحكومة لترويج الإنجازات فقط. محمد المرسي: نجاح المنظومة الإعلامية مرتبط بتلبية احتياجات الجمهور وتشهد البرامج التي لها علاقة بالتوعية وطرق التربية الصحيحة والرد على أسئلة الجمهور الأسرية نشاطا أيضا كأن تكون هناك امرأة ترغب في تنظيم الأسرة لكنها لا تعرف الطريق الصحيح أو أب عاجز عن دفع المصروفات الدراسية لابنه ولا يفهم ماذا يفعل فتتم مطالبته بتجهيز أوراقه لتقديمها إلى وزارة التعليم لإعفائه من المصروفات. وقال محمد المرسي، أستاذ الإعلام في جامعة القاهرة، لـ”العرب” إن “نجاح المنظومة الإعلامية مرتبط بتلبية احتياجات الجمهور، لا العمل في اتجاه معاكس، فالشق الخدمي في أي منبر إعلامي جزء أساسي من نجاحه، لكن هذا يتطلب خبرة ومصداقية ومهنية لأن المشاهد أصبح أكثر ذكاء ويستطيع تقييم نزاهة الوسيلة الإعلامية”. وتسبب غرق الإعلام المصري في البرامج الترفيهية في إثارة غضب الشارع، لأنها تصور المجتمع مرفها وسعيدا وخاليا من الأزمات، وظل الجمهور بلا صوت يتبنى مشكلاته ويسعى إلى إيجاد حلول لها وتوصيلها إلى الحكومة، لكن القطيعة بين الطرفين أجبرت القنوات على الرضوخ للأمر الواقع على أمل استعادة الجماهيرية المفقودة. ويقتنع القائمون على إدارة المنظومة الإعلامية بأن أغلب الجمهور لا يريد برامج سياسية لانشغاله بأزماته الحياتية، والبرامج التي لها طابع سياسي تتحدث بنفس النبرة لتوصيل الرسالة ذاتها، وليست هناك حاجة إلى كل هذه المنابر طالما أن القليل منها يؤدي الغرض. ويرى مراقبون للمشهد أن التعويل على البرامج الخدمية في استعادة الجمهور لن يحقق الغرض المطلوب طالما استمر تطبيق سياسة الخطوط الحمراء، أي عدم تطرق الإعلام إلى قضايا أو مشكلات بعينها، أو حتى توصيل صوت الناس في أزمة قد تكون لها تداعيات مباشرة على الدولة، مع أن فسح المجال أمام الناس للتعبير عن واقعهم الحقيقي لن يحدث أزمة، وربما يهدئ غضبهم. وأكد محمد المرسي لـ”العرب” أن “نقل نبض الجمهور إلى صانع القرار لا يصنع أزمة، بالعكس، وهذا جزء أساسي من دور الإعلام إذا غاب عنه أصبح بلا جدوى، وما يحدث من قبل بعض الوسائل لا يرضي الشارع والحكومة، لذلك فإن المطلوب هو استراتيجية شاملة تحدد بالضبط ما المطلوب من الإعلام المصري”. وأحرج الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الإعلام قبل أيام عندما كان يشارك في افتتاح بعض المشروعات الخدمية، حيث قال “الناس بتقابلني في الشارع وتقولي احنا زعلانين منك علشان الأسعار والمعاناة اللي احنا فيها وحاجات تانية كتير، لكن الناس بتوع الإعلام مش بيذيعوا الكلام ده علشان ميبقاش فيه زعل (الناس يقابلونني في الشارع ويقولون لي نحن غاضبون عليك بسبب ارتفاع الأسعار والمعاناة التي نكابدها وأشياء أخرى كثيرة، لكن الإعلاميين لا يذيعون هذا الكلام كي لا يتم الإيحاء بأن هناك غضبا في الشارع)”. أزمة الإعلام المصري تظل كامنة في إحداث التوازن بين ما يطلبه الشارع وما يرغب فيه الرئيس، حيث ينشد استعادة الجماهيرية ولا يريد الصدام مع أي مؤسسة رسمية وتضمّن كلام السيسي اعترافا من رئيس الدولة بأن الإعلام يواجه ما يشبه تأميم الكلمة، وأن الشارع يعاني وغاضب وهناك تكتّم متعمد من قبل البرامج والقائمين على إدارتها ورسم سياستها التحريرية، لكن حديثه أوحى للناس بأنه شخصيا بريء من هذا التأميم، وكأن دوائر رسمية أخرى تقف خلفه. ويقول خبراء لو أن الرئيس المصري يريد الاصطفاف الإعلامي لتكون البرامج كلها تتحدث عن الإنجازات دون إشارة إلى السلبيات لما أفصح علانية عن رأي شريحة من الجمهور تقر بأنها غاضبة عليه وعلى الإعلام، ما يوحي بأن الإسراف في البرامج الخدمية مطلوب لأسباب سياسية خوفا من أن يصل غضب الناس إلى الانفجار. ويطالب الخبراء بإتاحة الفرصة لبرامج خدمية تتبنى مطالب وشكاوى الجمهور وتحدث تفاعلا حكوميا معها، ليس كمجرد ديكور لتجميل الصورة السياسية والإيحاء بأن المناخ العام صار مهيئا لحديث الناس عن مشاكلهم، لأن ما يهم المشاهد أن يقوم الإعلام باسترداد حقوقه ويشعر بأنه يتحدث في برنامج له تأثيره. ولن تتحقق هذه المعادلة بسهولة إلا إذا كانت هناك قناعات شخصية من الوجوه الإعلامية ذاتها بحتمية الاشتباك مع الجهات الحكومية لا أن تصبح هذه البرامج ساعي بريد يوصل ما تريد هذه الجهات إيصاله، لكن المعضلة تكمن في أن الكثير من الوجوه الإعلامية نفسها لم يعد يعنيها ثقل أو نفوذ برنامجها، فالمهم ألا يتم الإقصاء من المشهد. وتظل أزمة الإعلام المصري كامنة في أنه أثبت فشله في أن يكون محايدا وفي إحداث التوازن بين ما يطلبه الشارع وما يرغب فيه الرئيس، حيث ينشد استعادة الجماهيرية ولا يريد الصدام مع أي مؤسسة رسمية، مع أن السيسي سبق أن طالب البرامج بنقل معاناة البسطاء لكونهم أبرز الشرائح المستهدفة، لكن المعضلة تكمن في الأيدي الإعلامية المرتعشة التي تدير المنظومة وتخشى المجازفة بالنقد أو الصوت المختلف.
مشاركة :