مِصْرُ (محمود سامي البارودي) بين الحنينِ والوَجَعِ

  • 3/15/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

نفي (محمود سامي البارودي)[1] إلى سَرَنْديب سبعة عشر عامًا وقتَ أُغلقَت أبواب الوطن في وجهه ظلمًا فصرخ: “لم أقترف ذنبًا”. تساءل عما إذا كان الدِّفاع عن الوطن ذنبًا يُعاقَب المرء عليه وما أجيب إلا بالإبعاد وما اقتنع. فالقضية الّتي آمن بها وعمل مِن أجلها قضية دفاع عن وطن تدخل فيه الأجنبي بشكل سافر: راجعْتُ فِهْرِسَ آثاري فما لَمَحَتْ بصيرتي فيه ما يُزري بأَعمالي[2] ولما كانت القضية قضية ظلم، فإن شاعرنا يتألم غاية الألم، فتمضي الأيام والشّهور والسّنوات، وتتدهور صحته، ويكاد الشّوق والشّعور بالاضطهاد يقضي عليه. تتالت عليه المصائب وكان أكبرها الضّعف النّاتج عن الشّيخوخة، فيخف نظره وسمعه وتوهن أعصابه، فيتوجع منه القلب والجسد معًا: كيفَ لا أنْدُبُ الشّباب وقد أصـ ـبحْتُ كهْلاً في مِحْنةٍ واغترابِ أخلَقَ الشّيبُ جِدَّتي وكَسَاني خِلْعَةً منه رَثَّةَ الجِلبابِ ولَوى شَعْرَ حاجِبَيَّ على عيـْ نيَّ حتّى أطلَّ كالهُدَّابِ لا أرى الشَّيءَ حينَ يسنَحُ إِلا كخيالٍ كأَنَّني في ضبابِ وإذا ما دُعيتُ حِرْتُ كأنِّي أسمعُ الصَّوتَ مِن وراءِ حجابِ كلَّما رُمْتُ نهضةً أقعدَتْني وَنْيَةٌ لا تُقِلُّها أَعْصابي[3] تلك الصّورة النّاطقة المتحركة لكهل يعاني مِن تراجع قوة الجسد عضوًا فعضوًا يدعمها بصورة أخرى يصور فيها نفسه يشبه فرخ طير صغير ضعيف لا حول له ولا قوة: أُزَيْغِبَ الرَّأسِ لم يَبْدُ الشَّكيرُ به[4] ولم يصُنْ نفسَهُ مِن كيدِ مُغتالِ[5] الفرخ الّذي كان نسرًا هدّته الأيام وطحنته المحنة وأوجعه الاغتراب، فما عاد يقدر على حمل قلمه هو الّذي طالما كتب بغزارة وحارب ببسالة أيام الشّباب: ولا تكادُ يدي تُجري شبا قلَمي وكانَ طوعَ بناني كلُّ عَسَّالِ[6] أما وقد اجتاحته الشّيخوخة وحُكم عليه بالنّفي، فهو يصف حاله بعيدًا مُضَّطَهدًا مظلومًا ومتشوقًا: لكلِّ دمعٍ مِنْ مُقلة سببُ وكيف يملِكُ دمعَ العينِ مُكتئِبُ لولا مكابدةُ الأشواقِ ما دَمِعَتْ عينٌ ولا باتَ قلبٌ في الحشا يجِبُ[7] لكنه – رغم الأسباب القوية – يحاول أن يتمالك نفسه فلا تُرى دموعُه جارية وهو الّذي كان له تاريخ مِن الشَّجاعة والبأس والقوة: أستنجدُ الزَّفَرات وهي لوافحٌ وأُسَفِّهُ العَبَراتِ وهي بَوادي[8] يحاول أن يتمالك: أَكُفُّ غَرْبَ دموعي وهي جاريةُ خوفَ الرَّقيبِ وقلبي جِدُّ مُلتاعِ[9] وعندما يحل الظَّلام وتغفو عين الرقيب، يخلد إلى البكاء المصحوب بالوجع: أبِيتُ أَرْعى الدُّجى بعينٍ غذاؤُها مَدْمَعٌ وسُهْدُ[10] وهو في سَرَنْديب حزين ساهر أرق: أَبيتُ حَزينًا في “سَرَنْديب” ساهرًا طوالَ اللَّيالي والخَلِيّون هُجَّدُ أحاولُ ما لا أستطيعُ طِلابَهُ كذا النّفسُ تهوى غيرَ ما تملكُ اليدُ[11] هو في سَرَنْديب غريبٌ، بائسٌ، ساهرٌ، أرِقٌ: أظلُّ فيها غريبَ الدَّارِ مبتئسًا نابي المضاجع مِنْ هَمٍّ وأوْجاعِ[12] هو في سَرَنْديب يعاني كل ما يمكن للمرء أن يعاني: شوقٌ ونأيٌ وتبريحٌ ومعتبةٌ يا لَلْحَميَّةِ مِن غَدري وإِهمالي[13] وهو في سَرَنْديب يعاني مِن كل ما يجلب إلى الإنسان الوجع: عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ أَلا شَدَّ ما ألقاهُ في الدَّهرِ مِن غُبْنِ[14] إن الغربة في سَرَنْديب غربتان: بُعد عن وطن وبُعد عن خل وصديق ورفيق يخفف وحدته ومعاناته: لا في “سَرَنْديب” خِلٌّ أسْتعينُ به على الهمومِ إذا هاجَتْ ولا راعي[15] فالصَّديق حاجة ملحة، فهو وطنٌ حين لا يكون الوطن موجودًا، فماذا لو لم يكونا موجودين معًا؟ لا في “سَرَنْديبَ” لي خِلٌّ ألوذُ به ولا أنيسٌ سوى همِّي وإطراقي[16] يصرخ وهو يعرف أهمية ما يفتقد إليه مِن هذا اللَّوذ وهذا اللّجوء وهذه الاستعانة وهذا البوح الّذي يحتاج إلى أن يبوحه فلا يجد شيئًا مما يطلب، فيعتكف ويعود إلى ذاته منهزمًا وقد زادت مواجعه، فيتحدث إلى أوراقه ويبكي ليلاً: يبكي دمعًا وحبرًا: لا في “سَرَنْديبَ” لي إلفٌ أُجاذِبُه فضْلَ الحديثِ ولا خِلُّ فيرعَى لي[17] إنه يعيش القحل والغربة في أبهى مشاهدهما ويعيش الوجع في أدق تفاصيله؛ فالإبعاد جرح والظُّلم جرح والغربة جرح والشّيخوخة جرح، والوطن هو: الجرح الأكبر. إن الملاحظ في صورة الوطن عند شاعرنا أنها صورة مشرقة رغم كلِّ الآلام الّتي يعانيها، إذ لم تستطع كل هذه الجروح أن تلون الصُّورة بالدَّم القاني المتدفق من الجرح المفتوح، بل ظلت صورة مشمسة متفائلة، فالوطن عند شاعرنا هو وطن الذَّاكرة التي تفجرت بالبعد والغربة. الوطن، عنده مرتبط بصورة الشّباب التي يتشوق فيها إليه وقت يرثي صديقيه الشيخ حسينًا المَرصفي وعبد الله باشا فكري: أين أيامَ لذتي وشبابي؟ أتُراها تعودُ بعد الذَّهابِ؟ ذاكَ عهدٌ مضى وأبعدُ شيءٍ أن يَرُدَّ الزّمانُ عهدَ التّصابي[18] الوطن مرتبط بأيام القوة والفتوة أيضًا: بلادٌ بها حلَّ الشّبابُ تمائمي[19] وناطَ نجادُ المَشْرِفِيِّ بعاتقي[20] فالوطن هو أرض الطّفولة وأرض النّشأة الأولى الّتي لا تلبث أن تسلِّم المرء إلى النَّشأة الثّانية أو نشأة الشّباب وقتَ كان شباب شاعرنا مليئًا بالبطولات والحروب المشرِّفة: ما إنْ خلعْتُ بها سُيُورَ تَمائمي حتَّى لَبِسْتُ بها حَمَائلَ مِخْذَمي[21] ويعود ليحدد معنى الوطن، فهو يعني – إلى جانب المراحل الّتي نشأ فيها وشب – كل ما يرتبط به من شجاعة وفروسية وحياة أسرية وعلمية: هو مَرْمَى نَبْلي ومَلْعَبُ خَيلي وَحِمَى أُسْرَتي ومركزُ بَنْدي[22] هو يعني الجيرة والقوم والآداب والأعراق: مَرعى جِيادي ومَأوى جِيرتي وحِمى قَوْمي ومَنْبِتُ آدابي وأَعْراقي[23] ويؤكد البارودي على كرم الأهل المتروكين جبرًا في الوطن إذ يؤكد على روابطه القوية بهم: وكيفَ أنْسى دِيارًا قد تركْتُ بها أهلاً كرامًا لهم وُدِّي وإِشْفَافي[24] لا ينسى: تركْتُ بها أهلاً كرامًا وجيرةً لهم جيرةٌ تعتادُني كلَّ شارقِ[25] إنه، يفتقد في الوطن: الإلفة الّتي يشكل مجموع ما ذكره منها طمأنينة لقلبه وسعادة، انظر إلى كلمات النَّعيم في حديثه عنه: منازل ُكلَّما لاحَتْ مَخَايلُها في صفحةِ الفكرِ منِّي هاجَني الطَّرَبُ[26] فالوطن – رغم بعده القسري عنه – كلما ذكر، أثار الطّرب في نفسه وكان ذكره هو الدَّواء من الوجع: خليليَّ هذا الشَّوقُ لا شكَّ قاتِلي فميلا إلى “المقياس”[27] إنْ خِفْتُما فقْدي ففي ذلكَ الوادي الّذي أنبَتَ الهَوى شِفائي مِن سُقمي وبُرئيَ مِن وَجْدي[28] وانظر إلى كلماته المشرقة عن الوطن – الذاكرة: ديارٌ يعيشُ المرءُ فيها منعَّمًا وأطيبُ أرضِ اللهِ حيثُ يُعاشُ[29] الوطن يرتبط بالسَّعادة الّتي هي عكس حاله في غربته في سرنديبَ؛ لذا يستدعيه فنتخيله باسمًا وهو يكتب عنه مستنبطاً صفاته: لبَّيْكَ يا داعيَ الأشواقِ مِنْ داعي أسمعْتَ قلبي وإِنْ أخطأْتَ أَسْمَاعي مُرْني بما شئتَ أَبلُغْ كلَّ ما وصلَتْ يدي إليه فإني سامعٌ واعي منازلُ كنْتُ منْها في بُلْهَنِيَةٍ مُمَتَّعًا بين غِلماني وأَتْبَاعي[30] وقد صار إلى ما لم يكن إليه فيه، فما مِن أتباع في هذه الغربة ولا مِن غلمان ولا مِن أهل ولا مِن جيرة ولا مِن هوى. إنها الغربة الّتي يحاول شاعرنا بنفس إيجابية – رغم كل الضُّغوط – أن يجد له منها منفذًا ما يخترق فيه جدارها المرتفع عاليًا في وجهه مانعًا إياه مِن نسمات الهواء الآتية مِن مزيج مشاعره الطّيبة الّتي يحافظ عليها فيسوِّرها ويبقيها في الذَّاكرة وطناً. إنه – بشجاعة المحارب القديم – يقاتل في سبيل استحضار أجمل الصُّور للوطن الممنوع: إذا تلفَّتُ لم أبْصِرْ سوى صُوَرٍ في الذِّهْنِ يرسمُها نَقَّاشُ آمالي[31] ونقَّاش الآمال يرسم بألوان فيها مِن وهج الحياة ما فيها، فيستبعد اللَّون الأسود وكلَّ الألوان القاتمة، غامسًا ريشته بالأصفر – رمز الشمس – وبالأحمر رمز الحياة. غريب شاعرنا الّذي عصفت به المحن فبكى بعزَّة وحده. خاف عين الرقيب، فانتظر اللَّيل ليبكي كما فعل أبو فراس الحمداني وقت انتظر الليل إذ أضواه ليبسط يد الهوى، بينما علا شدوُ البارودي نهارًا يبث لواعج الشَّوق إلى الوطن – الذاكرة الّذي اقتُلع منه ظلمًا. مصر الوطن الممنوع ينادي مِن سَرَنْديب بصوت لم تثقله هموم الشيخوخة، فيشدو الفرخ الصَّغير الضعيف كما لو كان نسرًا: طالَ شَوْقي إلى الدِّيارِ ولكن أينَ مِن (مصرَ) مَنْ أقامَ (بِكَنْدي) حبَّذا النّيلُ حين يجري فيُبدي روْنَقَ السَّيْفِ واهتزازَ الفَرَنْدِ[32] فهذا اللَّيل عنده يذكره بالسَّيف وبأيام القوة؛ لذا يتشوق إلى أن ينهل منه وكأنه يريد أن ينهل مِن دواء يزيل عنه الشَّيخوخة ويعيد إليه الشّباب: فهل نَهْلةٌ مِن جدولِ النِّيلِ تَرْتَوي بها كبِدٌ ظمآنةٌ ومُشاشُ[33] إنه يفتش عن نهلة، عن نسمة تأتي مِن موطن الشّباب (روضة النّيل) أو (روضة المقياس): يا (روضةَ النِّيل) لا مَسَّتْكِ بائِقَةٌ ولا عَدَتْكِ سماءٌ ذاتُ أغْدَاقِ يا حبَّذا نَسَمٌ مِن جوِّها عَبِقٌ يسري على جدولٍ بالماءِ دفَّاقِ[34] كذلك يحاول التقاط نسمات آتية من ذلك الوطن، نسمات تشعل في نفسه جذوة الأمل: إذا خطَرَتْ مِنْ نحْوِ حُلْوانَ نَسْمَةٌ نَزَتْ بين قلبي شعلةٌ تتوقَّدُ[35] ونتوقف مع النّظرة الإيجابية والرّوح غير الانهزامية الّتي – رغم المصاعب الجمة الّتي تحيط بها – فإنها لا تزال مرفوعة الرَّأس تقاوم كل سلبيات الواقع وتفتش بين الضّلوع وفي حنايا النَّفس والذَّاكرة عما ينعش المريض لا عمَّا يطلق عليه رصاصة الرَّحمة. استخدم البارودي عبارة: (نقَّاش الآمال) الّذي يجيد رسم الصور،ريثما يحدث شيء مجهول لكن جميل. استخدم شاعرنا هذه العبارة واصفًا مشاعره الإيجابية الّتي تأبى الخضوع للذّل. مِن هنا، راح هذا النَّقَّاش يرسم اللَّوحة تلو الأخرى: ولا وربِّكَ ما وَجْدِي بِمُنْدَرِسٍ على البِعادِ ولا صَبري بِمِطواعِ لكنَّني مالكٌ حَزمي ومنتظرٌ أَمْرًا مِن اللهِ يشفي برحَ أَوْجاعي فإنْ يَكُنْ ساءَني دهْري وغادرَنِي رهنَ الأَسى بين جَدْبٍ بعدَ إمْراعِ فإنَّ في مصرَ إخوانًا يسُرُّهُمُ قُربي ويعجبُهُم نظْمِي وإِبداعي[36] يرسم نقَّاش الأمل صورة مستقبل مشرقٍ رغم الوجعِ، ولعلّ لإيمان الشَّاعِر الكبيرِ بالله علاقة بهذه النظرة الإيجابية: عليَّ شَيْمُ الغوادي كلما برَقَتْ وما عليَّ إذا ضنَّتْ بِرقراقِ فلا يَعِبني حسودٌ أنْ جرى قَدَرٌ فليس لي غيرُ ما يقضيه خلاّقي أسلمتُ نفسي لمولى لا يخيبُ له راجٍ على الدّهرِ والمولى هو الواقي وهوَّنَ الخطبَ عندي أنني رجلٌ لاقٍ مِن الدّهرِ ما كُلُّ امرئٍ لاقي يا قلبُ صبرًا جميلاً إنَّهُ قدَرٌ يجري على المرءِ مِنْ أسْرٍ وإِطلاقِ لا بدَّ للضّيقِ بعد اليأسِ مِن فرَجٍ وكلُّ داجيةٍ يومًا لإشراقِ[37] ويبرز أكثر عامل الإيمان بالله تعالى المخلّص العالم بالمظلومين والمقهورين، ويبرز أكثر عامل الإيمان بالقدر الّذي لا بد أن ينقذ هؤلاء: فإنْ تكُنِ الأيامُ ساءَتْ صُروفُها فإنِّي بفضلِ اللهِ أولُ واثقِ فقدْ يستقيمُ الأمرُ بعد اعوجاجِهِ ويرجعُ للأوطانِ كلُّ مُفارقِ[38] إن الإيمان بقدرة الله تعالى يشد من عزم شاعرنا ويقويه فيقوي فيه حلم العودة إلى الوطن المُغادَرِ. لم يتذلل، لم يحن رأسه، لم يقل إنه مخطئ في تصرفه وإن العقاب الّذي أُنزل به كان عقابًا محقًّا، بل ظل حتى اللَّحظة الأخيرة يصرخ أنه مظلوم وأنه لا يستحق العقاب وأنه لا يريد العودة ذليلاً ولا يريد استجداء هذه العودة مِن البشر، فهو مدعوم بقدرة إلهية كبيرة تعرف متى ينجلي الحق. لم يستجد شاعرنا العودة، بل ظل يقف موقفه واثقًا قويًّا معتزًّا. لقد وقف وبيده سلاح هو الإيمان بالله تعالى وبقدرته على انتشال المظلومين وهو واحد منهم: وإنِّي، وإنْ طالَ المطالُ لَواثقٌ برحمةِ ربي فهو ذو الطُّولِ والمَنِّ[39] إن هذه الثقة كانت في محلها، فالشَّاعِر المرفوع الرأس يأبى الذّلّ والاستكانة والعودة العادية. لقد غادر بطلاً ويجب أن يعود بطلاً، وهذا ما حدث. إن شاعرنا يؤمن أنَّ كلَّ حبٍّ تبادلٌ، ويؤمن بأنه إذ يرى الوطن في أبهى حلله، يتوقع أن تكون له صورة عنده تماثل صورته، فهو يتوقع أن تكون صورته عند الوطن صورة مشرقة؛ ولمَ لا؟ وهو الّذي قاتل في سبيله وحارب وكتب؟ وهو الّذي حماه بدماء جدوده الشَّراكِسَة وآبائه؟ وهو الّذي نشأ فيه ونما مع علائل النَّسيم فكبر بالحب فيه لا بالقهر. وثق شاعرنا بقدرة الله تعالى على إعادته إلى الوطن، ووثق بأن الوطن كان في غيبته مثله: موجوعًا، وأنه ينتظره. عاد شاعرنا بطلاً كما غادر بطلاً، فغنى أغنية العودة الجذلى بقصيدة هي من فخرياته وعيون شعره. وفيها – مع الفخر – وفاء لمصر وتعلق بها وثناء عليها وتغنّ بمحاسنها. فبعد عودته من منفاه في سبتمبر سنة 1899، استقبله الناس بحفاوةٍ، و عادت داره منتدى الأدباء والشُّعَرَاء وأهل العم. وفي إحدى ندواته سأله الأديب الشّابّ (مصطفى صادق الرّافعي) شيئًا من شعره، فقال: “إن عنترة بن شدّاد العبسي يقول: هل غادرَ الشُّعَرَاء مِن متردَّمِ أم هلْ عرفتَ الدّارَ بعدَ توهُّمِ؟ وقد نقضتُ هذه القصيدة بقولي: كم غادرَ الشُّعَرَاء مِن متردَّمِ ولَرُبَّ تالٍ بزَّ شأوَ مقدَّمِ في كلِّ عصرٍ عبقريٍّ لا يني يفري الفَرِيَّ بكلِّ قولٍ مُحكَمِ وكفاكَ بي رجلاً إذا اعتُقِلَ النُّهى بالصّمتِ أو رعَفَ السِّنانُ بعَنْدَمِ أحييتُ أنفاسَ القريضِ بمنطقي وصرعتُ فرسانَ العَجاجِ بِلهذَمي وفرعْتُ ناصيةَ العُلا بفضائلٍ هُنَّ الكواكبُ في النّهارِ المُظلِمِ سلْ مِصْرَ عنِّي إن جهِلْتَ مَكانتي تُخْبرْكَ عن شرفٍ وعزٍّ أقدَمِ بَلِهٌ نشأتُ مع النَّباتِ بأرضِها ولثمْتُ ثغرَ غديرِهِ المتبسِّمِ فنسيمُها روحي ومعدِنُ تُربِها جسمي وكوثَرُ نِيلِها مَحْيا دَمي[40] غنى شاعرنا أغنية العودة الجذلى، فوجد مصر في انتظاره. لم لا؟ أو ليست مصر البلد الّذي لم يجد له بلدًا سواها؟ أو ليست مصر هي موطن أجداده الّذين استقبلتهم من شمال القوقازِ برحابة “حين جاؤوها مهاجرين، فرفعتهم إلى مكان السّيادة، فمنحوها حياتهم وقدموها فداء في الدافع عنها ولف جدثهم ثراها”[41]، فكان بين جذوره وبينها ذلك التبادل السَّخي؟ وجد شاعرنا مصر – الّتي ما غادرت لحظة قلبه – تنتظره تمامًا كما كان ينتظر بشوق العودة إليها هي الّتي تمثل دار العزة والكرامة التي ترتبط به ويرتبط بها بعلائق الحب الوثيقة: وأحقُّ دارٍ بالكرامةِ منزلٌ للقلبِ فيه علاقةٌ لم تَصْرَمِ هيَ جنَّةُ الحُسنِ الّتي زهراتُها حُورُ المها وهزارُ أيكتِها فمي[42] غنى شاعرنا أغنية العودة الجذلى الملأى بالكرامة والعزة والبطولة، وراح – وقد انقشعت عن عينيه غيوم الغربة الّتي كادت تودي ببصره قبل العودة – ينظر إلى معالم الوطن تقترب منه ويقترب منها، فيرى فيه سحرًا خلابًا يوازي – إن لم يفق، سحر بابل قديمًا: أبابلُ رأيَ العينِ أم هذهِ مِصْرُ؟ فإني أرى فيها عيونًا هي السِّحُر نَوَاعِسُ أَيْقَظْنَ الْهَوَى بِلَوَاحِظٍ تَدِينُ لَهَا بِالْفَتْكَة ِ الْبِيضُ وَالسُّمْرُ فليسَ لعقلٍ دونَ سُلطانِها حِمًى ولا لفؤادٍ دونَ غِشيانِها سِترُ فَإِنْ يَكُ مُوسى أَبْطَلَ السِّحْرَ مَرَّة ً فذلِكَ عصرُ المعجِزاتِ، وذا عصرُ فَأَيُّ فُؤادٍ لاَ يَذُوبُ صَبَابَة ً وَمُزْنَة ٍ عَيْنٍ لاَ يَصُوبُ لَهَا قَطْرُ؟ بِنفسي وإن عَزَّتْ عليَّ ربيبةٌ مِنَ العينِ فى أجفانِ مُقلتِها فَترُ فَتَاة ٌ يَرِفُّ الْبَدْرُ تَحْتَ قِناعِها وَيَخْطِرُ في أَبْرَادِهَا الْغُصُنُ النَّضْرُ تُرِيكَ جُمانَ الْقَطْرِ في أُقْحُوَانَة ٍ مُفَلَّجَة ِ الأَطْرَافِ، قِيلَ لَهَا ثَغْرُ تَدِينُ لِعَيْنَيْهَا سَوَاحِرُ بَابِلٍ وتسكرُ من صَهباءِ ريقتها الخَمرُ فيا ربَّة َ الخِدرِ الّذي حالَ دونَهُ ضَراغِمُ حربٍ، غابَها الأَسَلُ السُّمرُ أَمَا مِنْ وِصَالٍ أَسْتَعِيدُ بِأُنْسِهِ نَضَارَة َ عَيْشٍ كَانَ أَفْسَدَهُ الْهَجْرُ؟ رضيتُ مِنَ الدُّنيا بِحبِّكَ عالمًا بِأنَّ جُنُونِي في هَوَاكِ هُوَ الْفَخْرُ فلا تَحسبي شوقي فُكاهة َ مازحٍ فما هُوَ إلاَّ الجمرُ، أو دونهُ الجمرُ هوًى كضميرِ الزّندِ لو أنَّ مَدمعي تَأَخَّرَ عَنْ سُقْيَاهُ لاَحْتَرَقَ الصَّدْرُ إِذَا مَا أَتَيْتُ الْحَيَّ فَارَتْ بِغَيْظِها قُلُوبُ رِجَالٍ حَشْوُ آماقِها الْغَدْرُ يَظُنُّونَ بِي شَرًّا، وَلَسْتُ بِأَهْلِهِ وظَنُّ الفتى مِن غيرِ بيِّنة ٍ وِزرُ وماذا عليهِم إن ترنَّمَ شاعِرٌ بِقَافِيَة ٍ لاَ عَيْبَ فِيها، وَلاَ نُكْرُ؟ أفي الحقِّ أن تبكِي الحمائمُ شَجوَها ويُبلى فلا يبكِي على نَفسهِ حُرُّ ؟ وأَيُّ نَكيرٍ في هوًى شبَّ وقدُهُ بِقَلْبِ أَخِي شَوْقٍ فَبَاحَ بِهِ الشِّعْرُ؟ فَلا يَبْتَدِرْنِي بِالْمَلاَمَة ِ عَاذِلٌ فإنَّ الهوى فيهِ لمُعتذرٍ عُذرُ إذا لم يَكن لِلحُبِّ فضلٌ على النُّهى لما ذَلَّ حيٌّ لَلهوى ولَهُ قَدرُ وَكَيْفَ أَسُومُ الْقَلْبَ صَبْرًا عَلَى الْهوى وَلَمْ يَبْقَ لِي فِي الْحُبِّ قلْبٌ وَلا صَبْرُ؟ لِيهنَ الهوى أنِّي خضَعتُ لِحُكمهِ وَإِنْ كَانَ لِي فِي غَيْرِهِ النَّهْيُ والأَمْرُ وإنِّي امرؤٌ تأبى لي الضَّيمَ صولة ٌ مَوَاقِعُهَا فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ حُمْرُ أَبِيٌّ عَلَى الْحِدْثَانِ لاَ يَسْتَفِزُّنِي عَظيمٌ ولا يأوي إلى ساحتي ذعرُ إذا صُلتُ صالَ الموتُ مِن وكراتهِ وإن قُلتُ أرّخى مِن أعنَّتهِ الشِعرُ[43] كانت مصر وكان الوطن. [1] – ولد (محمود سامي البارودي) بمصر لأبوين من الشَّراكِسَة في السَّابع والعشرين من شهر رجب سنة 1255ه- 1839 ميلادية. وكان أبوه (حسن حسني بك) مِن أمراء المدفعية، ثم صار مديرًا لبربر ودنقلة في عهد المغفور له محمد علي (باشا) والي مصر. وكان عبد الله (بك) الشّركسي جده لأبيه. أما لقبه: “البارودي”، فنسبة إلى بلدة (إيتاي البارود) إحدى بلاد مديرية البحيرة، وذلك أن أحد أجداده الأمير مراد البارودي بن يوسف شاويش كان ملتزمًا لها، وكان كل ملتزم ينسب في ذلك العهد إلى التزامه. [2] _ الديوان، ص453. [3] _ الديوان، ص68، ونى في الأمر ونيًا: ضعف وفتر، والونية: اسم مرة منه. [4] _ أزيغب: صفة ل”فرخ الطير” تصغير الأزغب هو ماله زغب من الطير والزغب صغار الشّعر والريش وأول ما يبدو منها. والشكير: صغار الريش النابتة بين كباره. [5] _ الديوان، ص451. [6] _ الديوان، ص453* شباة القلم: إبرته وسنه* العسال: الرمح اللون المهتز. [7] _ الديوان، ص72* وجبَ القلب وجيبًا: اضطربَ. [8] _ الديوان، ص154. [9] _ الديوان، ص342. [10] _ الديوان، ص167. [11] _ الديوان، ص171. [12] _ الديوان، ص341. [13] _ الديوان، ص452. [14] _ الديوان، ص625. [15] _ الديوان، ص341. [16] _ الديوان، ص370. [17] _ الديوان، ص449. [18] _ الديوان، ص66. [19] _ التمائم: ج مخيمة وهي عوذة تغلق على الإنسان في طفولته لتدفع عنه العين. وحل التمائم كناية عن مجاوزة الإنسان طوار الطفولة. [20] _ الديوان، ص390. [21] _ الديوان، ص586. [22] _ الديوان، ص169* النبل: السهام العربية* الحِمى: المكان المحمي الّذي لا يقرب ولا يُجترأ عليه* البند: فارسية تعني: العلَم الكبير. [23] _ الديوان، ص371. [24] _ الديوان، ص372. [25] _ نفسه، 390. [26] _ الديوان: ص73. [27] _ يقصد روضة المقياس في مصر حيث نشأ وله فيها قصائد كثيرة. [28] _ الديوان، ص165. [29] _ الديوان، ص293 [30] _ الديوان، ص 393 _ 340. [31] _ الديوان، ص450* نقّاشُ: صيغة مبالغة من نقشَ الشّيءَ، أي: لوّنه وزخرفه. والشّاعر في هذا البيت يُكْثِرُ من التّلفّتِ بوجهه يمنة ويسرة، ويدور ببصره فيما حواليه فوق ذلك المرتبأ العالي، فلا يرى غير صور ذهنه لما كان يرتقبه ويرجوه ويأمله ويتمناه من انفراج أزمته وزوال شدّته؛ أو هي صور ما كان يتوق إليه من آمال واسعة لم يتحقق له منها شيءٌ. [32] _ الديوان، ص169* كندي: اسم مدينة صغيرة في وسط جزيرة سيلان (سرنديب) التي كان الشّاعر منفيًا بها* الفرند: السيف وجوهره ووشيه. [33] _ الديوان، ص 292* نهلة: اسم مرة من النّهلِ،وهو أول الشرب* المشاش: رؤوس العظام اللينة، الواحدة: مشاشة. والمشاش أيضًا: النفس. [34] _ الديوان، ص371* البائقة: الدَاهية والبلية والشّر* الأغداق: ج: غدق، وهو الماء الكثير أو المطر الكثير العامّ. [35] _ الديوان، ص171. [36] _ الديوان، ص342. [37] _ الديوان، ص373. [38] _ الديوان، ص391. [39]_ الديوان، ص635. [40] _ الديوان، ص586. [41] _ علي محمد الحديدي، ع.س، 38. [42] _ نفسه، ص586. [43] _ الديوان، ص 270 _ 273.

مشاركة :