الشاعر المصري سامي الغباشي: قصيدتي انعكاس لصدامي مع الواقع

  • 3/16/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تتجلى في تجربة الشاعر المصري سامي الغباشي التي تجمع بين الشعر والنحت، الروح العميقة لأسرار الحياة، تلك الروح الخالقة للرؤى والأفكار وملامح الحيوات الإنسانية وأبعادها في مختلف تجلياتها، لتنسج رابطا فريدا بين تشكلات اللغة وتشكلات الكتلة، وفي هذا الحوار مع الغباشي نتعرف على تلك المسيرة من حيث ملامحها ورؤى صاحبها وأفكاره فيما يخص المشهد الشعري والثقافي. النص الشعري عند سامي الغباشي وثيق الصلة بالتحفة الفنية النحتية في التجربة، ولذلك أسرار تتكشف في السيرة الحياتية التي انطلقت منذ الطفولة وألقت بتأثيراتها على التكوين المعرفي ومن ثم الاتجاه نحو الشعر ثم النحت. يلفت الغباشي “البدايات كانت مشاكسة جدا أصداء وأناشيد وحلقات ذكر وموشحات وكلام فيه دندنة وحروف متشابهة كل فقرة تدق كأنها ضربة إيقاع ترد على التي قبلها. كل ذلك استفز تطفلي ولهفتي على الاستزادة، حتى عرفت أن ما أحبه اسمه ‘شعر‘ وله أشكال وفنون وأسماء مشاهير. لا بد أن أقرأ لهم. كانت هذه خربشات الوعي والطفولة، ومازلت أؤكد أن القصيدة هي كتابة أتحرر بها وفيها من كل القيود والجدران وفيها أسيطر تماما على رقباء الجمجمة والمنابر والمكاتب لذلك تجدني في الكتابة أمارس حياة صاخبة متحررة أوسع من طبيعتي المتدينة”. جيل التسعينات يقول الشاعر “القصيدة بالنسبة إليّ هي إرادة الحياة التي تشتبك بشراسة مع كل ما هو يقيني ومستقر، لذلك أستسلم لها وأحصد المشاكل، أطل من شبابيك الحياة بشخصيتين ‘النحات والشاعر‘، والنحت بالنسبة إليّ هو معركة مع الكتلة والفراغ لصالح الجمال والفكرة، وقد مارست النحت كمهنة في البداية، ثم كفنّ تشكيلي أشارك به في المعارض لفترة، ولكنني رضخت لسطوة الشاعر داخلي منذ البداية، فتحول النحت في حياتي إلى مشروع تجاري لإنتاج التحف، ولكن خبرة النحت والاشتباك مع الخامات الصعبة والصبر عليها واستنطاقها أضافت الكثير إلى طريقة تعاملي مع اللغة والتشكيل بها في فضاء القصيدة”. ويضيف “كمعظم الأطفال الذين نشأوا في القرى كانت النشأة الدينية هي المسيطرة، فهناك الـ’كُتّاب’ الذي يحفظ فيه الأطفال القرآن على يد شيخ مجيد لفنون التجويد، فحفظت الكثير من القرآن الكريم وفتنت بموسيقى اللغة وطاقات المفردات المنغومة وحركات الحروف والسكنات والتمثيل الصوتي للمعنى، ثم تسللت إلى حلقات المنشدين الصوفيين وقوافيهم ودندناتهم، وبعد ذلك وفي مرحلة أخرى تعرفت على فنون ‘العروض‘ وتمكنت منه، وكنت من محبتي لإيقاع التفاعيل وتقسيماتها أتقصاها في خطواتي على الإسفلت وفي صوت شواكيش ‘النجارين والأويمجية‘، كل ذلك بالتأكيد أضاف إليّ خبرة لغوية وموسيقية فريدة يفتقدها من لم يعترك مع هذه الحياة الصاخبة الثرية”. ويتابع الغباشي “الغربة تعتبر إحساسا أصيلا في شخصيتي فقد رفضت اليقين العائلي وأنا في سن السادسة عشرة، وتمردت على محاولات رسم خرائط الرأس وسافرت إلى سوريا في هذا العمر للعمل والدراسة، بحثا عن براح يليق بمراهق مشاكس، ولذلك تجد ذلك الإحساس واضحا في قصائدي وبين السطور، والغربة التي أقصدها هنا ليست اغترابا عن المكان وفقط، ولكنها غربة عن الذات وفيها وعن المحيطين بك والمقرّبين هي غربة نفسية، كنت أقرأ عنها عندما كنت صغيرا ولم أفهمها إلا عندما اعتركت مع الحياة بتفاصيلها وتناقضاتها، وفي ديواني ‘وتسميهم أصدقاء‘ تجد ذلك واضحا وقد كتب عن هذا الإحساس الناقد أحمد لطفي رشوان دراسة فريدة بعنوان “انشطار الذات والبحث عن صيغة للتفاعل”. ويشير من ناحية أخرى إلى أن الساحة الأدبية المصرية تعيش في العديد من الدوائر التي لا تغادرها، وقد آن الأوان أن نكف عن هذه المعارك المفتعلة لننظر بجدية، ولنبحث عمّاذا يقال في هذا الشعر؟ في أي إطار كان؟ وبعيدا عن تشنجات أدعياء الحداثة وما بعدها، فواقعنا الآن يحتاج إلى قصيدة تحتفي بـ”الهنا” و”الآن” في انحدارهما المزعج نحو هاوية مجهولة بعيدة. ففي رأيه ليس كل ما يقدم في قصيدة النثر جيدا، وليس كل ما يكتب داخل إطار التفعيلة رديئا، فهناك من يكتبونها جيدة. ويتابع الغباشي “شخصيا أنتمي شعرياً إلى ‘جيل التسعينات‘ كما يحب بعض النقاد أن يصنفوا أجيال الشعراء زمنياً، وهذا الجيل يميل – بحكم اللحظة المفصلية التي تفتّح وعيه عليها اجتماعياً وسياسيا- إلى الفوضى وإلى تحطيم المستقر في الوجدان الجمعي، وتميزت تجربته بالجرأة في تناول بعض المسكوت عنه واجتراحه وساعدت أوائل التسعينات وفوران التنوير الجميع على هذه الجرأة، فاستثمروها واستفادوا من هذا الظرف التاريخي، وازدحمت الساحة الأدبية بشعراء حقيقيين وأدعياء لا رهان لقصيدتهم سوى أنها اجترأت على الله ‘الغيبي‘ رغم أن معركتهم الشعرية والإنسانية الحقيقية في ‘قصيدة النثر‘ كما أعلنوا عن أهدافهم في بداية التسعينات تدور وتشتبك مع اليومي والمعيش والإنساني و‘الهنا ـ والآن‘ وقصيدة التفاصيل”. يتابع “انشغلنا كثيراً بتأمين مصدات نقدية كافية لقصيدتنا حتى تحقق لها في أقل من عشر سنوات ترجمات ورسائل جامعية ناقشتها، ونقاد حرصوا على الوجود في دائرة الضوء المشاكس، ولكن وبعد أكثر من عشرين سنة الآن ما زالت الفوضى وغياب الفرز الحقيقي للتجربة، وما زال الأعلى صوتاً والأشرس في المقاهي والندوات والصحافة هم الأكثر حضورا بغض النظر عن جدية مشروعهم الشعري وما أنجزته قصيدتهم”. ويبين أن جيل التسعينات جيل مرتبك بحكم ظرف الظهور الذي صاحبه فهو بطبيعته المتمردة كان خارج حسابات المؤسسة الثقافية في هذه الفترة، ولكن الصخب وردود الفعل العنيفة دفاعا عن الوجود من هذا الجيل هو الذي أتاح الظهور القوي للنصوص الأولى الجيدة التي تحمل سمات التجربة التسعينية من خلال مجلات الهامش، كما كنا نحب أن نسميها، ومطبوعاتنا وكان لها بالغ الأثر في إثارة الراكد الجمالي المستقر ولفت النظر للجيد من نصوص هذه التجربة. يقول “كنت دائما بالقرب من كل شعراء هذا الجيل وعلى صلة طيبة بهم لكن وبحكم طبيعتي المتمردة كانت لي عزلتي الخاصة وخصوصيتي لذلك تجدني دائما بعيدا عن حسابات الوجود الجماعي ومكاسبه، وأنا مقل في الكتابة بطبيعة الحال فلم أتهافت لأنشر قصيدة أو كتابا وكتبت ما يخصني ويكفيني أن ديوان كـ‘وتسمّيهم أصدقاء‘ لا يذكر اسمي إلا مصحوبا بالأثر الطيب الذي أحدثه هذا الديوان في الوسط الأدبي”. في قصيدة النثر لا تتوارى الذات خلف المجازات بل تتجلى لتسمّي الأشياء بأسمائها وتحتفي بتفاصيل اليومي كما هو يكشف الغباشي “قصائدي الأولى كتبتها داخل الإطار العروضي الذي يعتمد على التفعيلة ‘كوحدة موسيقية‘ وداخل النسق اللغوي الذي يحتفي بالبلاغة التقليدية، وقد نشرت هذه التجربة في ديوانين بعنوان ‘فوق ذاكرة الرصيف‘ 1991، و‘فضاء لها ومسافة لي‘ 1995 ومنذ ذلك التاريخ بدأت ‘كتابة أخرى‘ تتسلل إلى قناعاتي الشعرية على استحياء في البداية، وبجرأة شديدة بعد سنوات قليلة حين أفردت لها القسم الأول من ديوان ‘هزيمة الشوارع‘ 1998، وأقصد بهذه الكتابة قصيدة النثر كما أفهمها بعيدا عن غوايات المشاع الذي ازدحمت به الساحة”. ويتابع “تدريجيا بدأت أتخفف من اللغة اليقينية المثقلة بالمجاز؛ لصالح لغة أكثر التصاقا بكل ما هو بسيط وصادق، وبعيدا عن دندنة التفعيلة أو أكروبات المجاز. وتعتبر قصيدة النثر الوسيلة التعبيرية الأكثر صدقا في ظل هذا الواقع المضطرب، لأن المسافة فيها تتضاءل بين التجربة المعيشة والنص ليصبحا كتلة واحدة قادرة على نقل شحنة الذات الشعورية بلغة تسمّي الأشياء بأسمائها، ففي هذه القصيدة الأقرب إلى نفسي، أستطيع أن أتلصص على ذاتي في انقسامها وهزائمها واصطدامها بعالم الإسفلت والحوائط العالية والعلاقات اليومية”. ويضيف “في ديوان ‘رصيف يصلح لقضاء الليل‘ قررت أن أتجاهل قليلا شروط المشهد الشعري التسعيني الذي أنتمي إليه والذي ينفي ـ بعصبية ـ كل قصيدة تكتب خارج ‘النثر‘، وجمعت في هذا الديوان قصائد النثر إلى جوار قصائد التفعيلة دون تقسيم أو فاصل بينهما وتركت للمتلقي الحكم على التجربة، واستثمرت إنجازات قصيدة النثر وجماليتها في قصائد اعتمدت على التفعيلة، واستحلبت كل التاريخ النغمي الخاص بقصيدة التفعيلة واستثمرته في قصيدة النثر، فاليومي والمعيش والمشهدي والمفارقة والكثافة والتوهج، كل هذا يتوفر في قصائد الديوان سواء في التفعيلة أو النثر”. وكما يقول “حاولت أن أمارس حريتي الإبداعية كاملة في هذا الديوان فجاءت قصائده صادقة وطازجة من وجهة نظر من أثق في أذواقهم، رغم وجود بعض الجرأة في معظم القصائد، إلا أنها بقراءتها في سياقها الشعري سنجد أهميتها ودورها في فضاء النص وجمالياته”. الشعر والحرية الجمع بين الشعر والنحت يؤكد الغباشي أن القصيدة هي انعكاس شعري لاصطدامه مع الواقع ومعايشته له أو هي استخلاص أصوات عاقلة من فوضى الذات وتناقضاتها، لذلك لا تتوارى الذات ـ خاصة في قصيدة النثر ـ خلف المجازات بل تتجلّى لتسمّي الأشياء بأسمائها وتحتفي بتفاصيل اليومي كما هو، المهم هنا هو المهارة في اقتناص اللحظة الفاتنة من العادي والمألوف. ويقول الغباشي “أما عن الحرية فقد كانت ممارستي للكتابة بحرية كاملة بين النثر والتفعيلة، ففي اللحظة التي كان الجميع يحتفي ويرسخ لقصيدة النثر وفقط؛ كنت عندما تداهمني قصيدة جميلة تدندن مع التفعيلة كحضرة صوفية كنت أكتبها وأصرّ على وجودها في دواويني لأنها تضيف إلى تجربتي الشعرية في حين أن بعض زملائنا كان يخجل وقتها من معرفته للعروض أصلا لكي لا يتهم بالتخلف، وهؤلاء كيانات هشة أو كما سميتهم في قصيدتي ‘المعمعيون‘ وهم بلا رأي يتسلقون ويتملقون حتى ضاعت ملامحهم. ومع ذلك أرى أن للشاعر الحق كل الحق في أن يغير قناعاته وانحيازه الجمالي وللآخرين الحق في قبول تجربته أو رفضها وسيظل الشاعر الحقيقي عصياً مجرباً في كل المتاح الجمالي وخارج السرب و بعيدا عن القولبة”. ويلفت إلى أنه في “زماننا هذا لا يمكن تقييم المبدع من خلال التفات النقاد للتجربة أو الكتابة عنها لأننا جميعا نعرف كيف تسير الأمور في شبكات المصالح، ونقاد كل الموائد أصبحت رائحتهم تزكم الأنوف، وإذا أردت أن تتقصّى الظاهرة فقط قم برصد كتابات النقاد عن الأدباء الذين يعملون بالصحافة أو لديهم منابر، وقارن ذلك بكتابات النقاد عن الأدباء الذين لا يملكون سوى نصوصهم وتجربتهم، وستجد عجبا، وعن تجربتي فقد حظيت بعدة دراسات جادة من نقاد محترمين قاموا بالكتابة عنها بحياد مثل صلاح فاروق، مجدي توفيق، أحمد لطفي رشوان، وبهاء عبدالمجيد”. الواقع اختلف كثيرا بفضل شبكات التواصل الاجتماعي فصار الأديب بطبيعته الثقافية والنفسية متفاعلا وفاعلا ويرى أن الممارسة السياسية للأديب موقف شخصي وانحياز لقيم الحرية ولا يعني بالممارسة السياسية “التحزب” فهذه التجربة يتحفظ عليها كثيرا لأنها في الغالب تجعل من الأديب بوقا كبيرا، وهو لا يدري فالأديب ينحاز طيلة الوقت إلى قيم الحق والخير والجمال والحرية وللإنسان أيا كان معتقده، وعليه أن يمارس ذلك بحرية بعيدا عن أجندات الأحزاب حتى وإن تقاطعت الأفكار وتوافقت، فليكن حرا طليقا أفضل. ويقول “في فترة ما قبل الثورة بسنوات أصاب الوسط الأدبي ما أصاب كل قطاعات الحياة في مصر من فساد وتواطؤات حتى تمييع المشهد الشعري وأصبح الوجود إهدارا للكرامة والوقت، وكنت وقتها فعلا في حالة مراجعة لكل قناعاتي وأحتاج إلى عزلة أعود فيها لنفسي كما أحبها ولأنفض ما علق بأخلاقي من غبار التصعلك في مصر وخارجها، ولكنني لم أتوقف عن الكتابة والتواصل مع أصدقاء تجمعنا مدارات الروح والشعر، وأرى الآن أن الواقع قد اختلف كثيرا بفضل توافر شبكات التواصل الاجتماعي فالأديب بطبيعته الثقافية والنفسية متفاعل وفاعل في الأحداث”. يضيف “قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها كان الأديب يجد ملاذه ومتنفسه في مقاهي المثقفين والمنتديات الثقافية لتبادل الآراء وعرض وجهات النظر وتطبيق نظرياته وفرضها أحيانا، أما الآن فقد وفر الفضاء الإلكتروني له براحه ومتنفسه وهو في بيته أو مكتبه ليخوض ما يشاء من المعارك الأدبية والفكرية ولينثر أفكاره بحرية ويدافع عنها. ففي هذا الفضاء الإلكتروني لا رقيب ولا حذف ولا انتظار موافقة للنشر أنت تصنع فضاءك الحر وتستضيف فيه من تشاء”. ويقول “أخيرا أطل بقصائدي وحواراتي من خلال بعض الصفحات المحترمة النزيهة، وكل عدة سنوات أنشر كتابا شعريا أو ما يتسنى لي مراجعته، لأنني كسول جدا في التزاحم على دور النشر الرسمية، وأرى أن التزاحم مهين جدا، لذلك أؤمّن كرامتي بالإطلالة كل فترة بكتاب أو قصيدة أو رأي، دون تنازلات ودون شلة، وأتعفف عن المزاحمات والندوات التي تدار كالعطايا وردّ الجميل، كما حدث في ندوات معرض الكتاب الأخير التي اعتذرت عن المشاركة فيها بسبب غياب المعايير والمجاملات الفجة في توزيع الندوات والأسماء. وكل ذلك لن يتبقى منه شيء، فقط الشعر الحقيقي هو ما سيبقى سواء ديوان أو قصيدة حقيقية تحمل بذور مغامرتها في داخلها”.

مشاركة :