لم تكن تلك الدعوة الموجهة إلى «جبهة النصرة» لفكّ ارتباطها بتنظيم «القاعدة»، موفّقة، ولا في محلّها، فضلاً عن أنها جاءت متأخّرة جداً، بغضّ النظر عما إذا كانت تنطوي على سذاجة، أو على محاولة تبرؤ من هذه المنظمة المتطرفة والإرهابية، ربما لإرضاء جهة ما، أو دولة ما. الفكرة الأساسية هنا أن هذه الجبهة، منذ قيامها (أوائل 2012)، لم تدع البتّة أنها جزء من الثورة السورية، وهي لم تدخل مرةً في أي من إطاراتها المتعددة، السياسية أو العسكرية أو المدنية، كما لم تتبنّ أهدافها او مقاصدها، المتعلقة بالتغيير السياسي في سورية، لا سيما بخصوص اقامة دولة ديموقراطية مدنية، تكفل المواطنة والحقوق والحريات لكل المواطنين، وهو ما فعله «الإخوان المسلمون»، مثلاً، في «وثيقة العهد والميثاق» (آذار/مارس 2012). على عكس ذلك تماماً، فهذه الجبهة ظلت تؤكد انتماءها لتنظيم «القاعدة»، وتبنيها لأهدافه التي تفيض عن جغرافية وديموغرافية سورية، والتي تختلف عن تطلعات معظم السوريين، إضافة إلى أنها في حيّز الممارسة كرست جهداً اساسياً من جهودها القتالية لمحاربة «الجيش الحر» الذي وجد نفسه، على قلة امكاناته، في خضم معارك متوالية استنزفت طاقته وامكاناته البشرية والمادية. وإلى هذا وذاك فهذه «الجبهة» مسؤولة وإلى حد كبير عن ظهور تنظيم «داعش»، في الأرض السورية، بل إن مدينة الرقة التي باتت مركزاً لـ «جبهة النصرة» انتقلت بيسر إلى هيمنة «داعش» (2013)، وهذا حصل في مناطق كثيرة، على رغم نشوب بعض الاقتتالات الحامية بين هذين التنظيمين المتطرفين، بحكم مرجعيتيهما المختلفتين. المعنى من ذلك أن الموقف من هذه «الجبهة» لا يتعلق بأيديولوجيتها، ولا بطابعها كحركة اسلامية، ولا باعتبارها جزءاً من منظومة حركات الاسلام السياسي، وإنما تحديداً بطبيعة معتقداتها السياسية المتطرفة، واستخدامها العنف لفرض آرائها، وأيضاً بممارساتها العدائية ضد «الجيش الحر»، ومحاولاتها فرض معتقداتها المتطرفة على مجتمعات السوريين، في المناطق التي خضعت لسيطرتها، والتي أضحت بمثابة اقطاعيات أو امارات عسكرية تابعة لها، مع التأكيد على التمييز بين الجبهة والمنضوين في إطارها، طوعاً او قسراً، من السوريين الذين اضطروا لسبب او لآخر لذلك في الظروف السورية الصعبة. ومعلوم ان هذا التنظيم حاول تطويع السوريين لمعتقداته، والتحكم بشؤونهم وعاداتهم الشخصية، في المناطق التي خضعت لسيطرته العسكرية، لا سيما في الشمال السوري، بما في ذلك التحكم بالملبس ونمط الحياة، وقد وصل ذلك الى حد التنكيل بالنشطاء المدنيين، الذين حملوا الثورة في أشهرها الأولى، إلى الدرجة التي ادت إلى نزوحهم من هذه المناطق. القصد من ذلك ادراك حقيقة مفادها اننا لسنا هنا إزاء تتظيم آخر ثمة خلاف سياسي او فكري معه ضمن إطار المعارضة السورية، وانما نحن ازاء حالة اخرى، مع أجندة مختلفة، وعلم مختلف، ومنهج يقوم على تكفير باقي الجماعات، ومع السعي الى فرض الهيمنة على المجتمع، واعتبار الديموقراطية مجرد هرطقة وخروج عن الاسلام. على ذلك يفترض الانتباه إلى ان مشكلة «جبهة النصرة» وأخواتها لا تكمن، فقط، في ممارسة الإرهاب وتبعيتها لتنظيم «القاعدة»، وانما تكمن، أصلاً، في عدم اعترافها بالثورة السورية، ومناهضتها لمقاصدها، وتنكيلها بنشطائها السياسيين، وضمن ذلك محاربتها لـ «الجيش الحرّ». لذا إذا كان يتوجب على المعارضة السورية، وعلى رئيس «هيئة الإئتلاف»، لسبب أو لآخر، دعوة «جبهة النصرة»، والمنخرطين فيها، إلى فك ارتباطهم بتنظيم «القاعدة»، فقد كان حرياً بها، أيضاً، دعوة هذه الجبهة إلى فك ارتباطها بعقيدتها القائمة على تكفير السوريين، ومقاتلة «الجيش الحر»، والانتهاء من قصة الامارات العسكرية، والاعتراف بالمقاصد السياسية للثورة، باعتبارها تخص كل السوريين، وباعتبارها ثورة من أجل الحرية والديموقراطية والمواطنة. وهو ما يفترض ان ينطبق على باقي الجماعات العسكرية، التي تأخذ المنهج ذاته، او تشتغل على أساسه، في العلن او الباطن. وفي الحقيقة لا يمكن الثورة السورية ادعاء مواجهة النظام، الذي قامت لإسقاطه بدعوى انه نظام ديكتاتوري واستبدادي، بجماعات مثل «جبهة النصرة»، لأن هذه لا يمكن ان تشكل نموذجاً مقنعاً لكل السوريين، ولا حتى لمن يعتبرون من «السنّة»، لأن هؤلاء لا يمكن ان يحسبوا على جماعة سياسية او ايديولوجية او دينية معينة، ولأن هذا يأخذ البلاد نحو الطائفية، فضلاً عن انه يعيد انتاج الاستبداد بأغطية دينية. وأيضاً، لا يمكن اقناع السوريين، ولا العالم، بمواجهة تنظيم «داعش» مع وجود جماعة كـ «النصرة»، التي لا يوجد اي فارق بينها وبين «داعش»، في ما خص المعتقدات الأيديولوجية، واستخدام العنف المتوحش، ونمط الهيمنة على المجتمعات المدينية. وفوق هذين، اي النظام و «داعش»، لا يمكن جماعات الثورة السورية ادعاء مناهضة الجماعات العسكرية الطائفية والمذهبية مثل «حزب الله» و «أبو الفضل العباس» و «الحشد الشعبي» وغيرها، والسكوت عن جماعات مثل «جبهة النصرة» او «داعش» واشباههما. فهذه التشكيلات التي بنيت على أسس مذهبية وطائفية، والتي تدعي احتكار الاسلام وتمثيل المسلمين، والتي تأسست على فرض هيمنتها بواسطة القوة العسكرية، وتكريس الاستبداد، بدعوى الولاية من الله، هي وصفة لتصدع المجتمعات العربية، وهي تشتغل باعتبارها جزءاً من الثورة المضادة، كل بطريقته، وبحسب مصالحه، او مصالح الجهات، او الدول، التي تقف خلفه. أخطأت الثورة السورية، لا سيما تشكيلاتها السياسية، وضمنها التيار الاسلامي المدني والمعتدل، بمداهنة التشكيلات الاسلامية المسلحة، وبالسكوت عن أطروحاتها المتطرفة، ظناً منها انها تقوم بجزء من عملها في مواجهة النظام، على رغم ان هذه لم توفر أي فرصة للحط من قيمة الثورة السورية، وتقويض معانيها، وإضعاف تشكيلاتها السياسية، ومقاتلة «الجيش الحر». لذا فإن الاستمرار في هذا الخط لن يفيد شيئاً، بل سيظل عامل اضعاف للثورة وقيداً على امكانات تعزيز مكانتها إن لدى السوريين او في ما يخص صورتها على الصعيد العالمي.
مشاركة :