الروائي والناقد السوري نبيل سليمان: دور المثقف لا ينتهي في التغيير والإصلاح

  • 3/20/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في السبعينات بدأت المغامرة الحداثية وبدأ التجديد والتجريب، وانفتحت صفحة جديدة في تاريخ الرواية السورية. وقد جاء فوز الكاتب السوي نبيل سليمان بجائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها السابعة عشرة (2020 – 2021)، في حقل القصة والرواية والمسرحية، تتويجا لمسيرة مشروع أدبي شامل بين النقد والأدب، وتقديرا لمنجز ناهز عمره الخمسين عاما من العطاء. وقد التقت الـ”العرب” سليمان أثناء حفل توزيع الجوائز مؤخرا وطرحت عليه العديد من التساؤلات الخاصة بمشروعه ومراحل مسيرته الفكرية والفنية. يشكل المشروع الروائي للكاتب السوري نبيل سليمان جنبا إلى جنب مع رؤاه وتحليلاته النقدية علامة مهمة في المشهد الروائي والنقدي السوري على مدار النصف قرن الأخير، انطلاقا من أوائل السبعينات وحتى الآن، من خلال اثنتين وعشرين رواية وما يقرب من عشرين كتابا في النقد الأدبي وغيره، حيث تجلّت في مشروعه إشكاليات وقضايا وهموم المجتمعين السوري والعربي السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية والدينية، الأمر الذي تمكن معه مكاشفة ثرية لمختلف الفضاءات والوقوف على أبرز التوترات والصراعات التي عالجتها رواياته وقراءاته الثقافية وتحليلاته النقدية للمشهد الروائي. بداية يلقي سليمان الضوء على مرحلة ما قبل الكتابة وصدور روايته الأولى “ينداح الطوفان” 1970 وقراءاته وتوجهاته الفكرية والإبداعية والثقافية وقت صدورها، يقول “ليس لي من قبل مرحلة الكتابة إلا غرارات ما قبل الرابعة عشرة. كيف يكون المرء في ذلك السن؟ طفل؟ يودّع الطفولة؟ يشرع روحه للمراهقة؟ في واحدة من تلك الغرارات كنت مع أسرتي في بلدة جبلية صغيرة تبعد عن الشام (دمشق) بمئتي كيلومتر. لكن مجلات صحف العاصمة كانت تصلها ظهراً أو عصر كل يوم”. ويتابع “في عدد من مجلة ‘الدنيا‘ أسرني عمود، لا أذكر إن كان شعراً أم نثرا. نقلته على دفتري، وامتلأت يقيناً أنه لي. قرأت ما نقلت لأبي، وكذبت عليه، وصدق الكذبة، وتباهى بها بعد أيام أمام والده. بعد حين طويل أو قصير، لا فرق، وقع عدد المجلة بين يدي أبي. لم أحُسِن تخبئته، بل لم أمزقه أو أتخلص منه. بلع أبي الكذبة، ولم أبلعها إلى اليوم، على الرغم من أنني تصالحت معها بعد قليل، حين كتبت القصة الطويلة – الرواية القصيرة الأولى وأنا في الرابعة عشرة، وعنوانها ‘حكاية حلم‘”. البدايات الروائية يقول سليمان “ما بين هذه ‘الغرارة‘ أيضاً وصدور ‘ينداح الطوفان‘ عشر سنوات عامرة بالقراءة في الرواية والشعر والقصص الشعبي ومترجمات سارتر وكولن ويلسون وكامو وسيمون دوبوفوار، ومقررات ومراجع السنوات الأربع للطالب في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق. وكنت في تلك السّنوات قد شرعت في كتابة رواية، حتى إذا بلغت ثمانين صفحة عجزت عن المتابعة كما شرعت بكتابة رواية أخرى لا تزال خبيئة في حرز حريز، وكانت ‘الوجودية‘ هي الميسم الأكبر مجبولة بالهوى القومي، في سنوات الجامعة التي سيعقبها التمركس، وما أدراك ما التمركس”. في الثقافات الشرقية، ومنها ثقافات العالمين العربي والإسلامي، الكثير والبديع والخالد من الروحانيات التي تناقض كل استبداد ويشير الكاتب إلى أنه “بعد طيّ كل تلك السنين، لا زلت أتنسّم سلاسة السرد واندغام الفكرة – الفلسفة في الروايات الوجودية. أما ما أسرع إليّ وأسرعت إليه من الماركسية، فربما هو ما مال بي عن الستالينية أولاً، ثم عن اللينينية أيضاً، بالأحرى عن الشيوعية السوفياتية وظلها السوري أو ظلالها العربية”. ويذكر أنه آنئذٍ كانت قد بدأت مؤلفات ومترجمات ماركسية غير متحزبة (لا سوفياتية ولا صينية ولا يوغسلافية)، بل “نقدية” تتلامح فيها أطياف غرامشي وألتوسير وروزا لوكسمبورغ، وتظهر فيها تشققات الحزب الشيوعي السوري، وكتابات إلياس مرقص، وصداقة وكتابة بوعلي ياسين، وهزيمة 1967. كل ذلك فعل فعله العميق في تشكيل روائي في الحياة، وفي معنى وسر هذه الحياة، أي في الكتابة، ولعلّي أستطيع إيجاز ذلك، بالأحرى تقطيره في: الفكر النقدي والمواقف النقدية، قل: النقدية، والتجديد والتجريب”. وحول خارطة المشهد الروائي في سوريا في تلك الفترة التي انطلق منها في الكتابة أوائل السبعينات، وحجم التبدلات التي أصابتها بعد ذلك، يتابع سليمان “قبل سبعينات القرن العشرين كان الرواد منسيّين، مثل فرنسيس المراش (حلب 1836 – 1873) صاحب ‘غابة الحق‘ و‘دُرّ الصَّدف في غرائب الصُّدف‘ أو شكيب الجابري (حلب 1912 – 1996) صاحب ‘قدر يلهو – نهم – قوس قزح‘ والذي عاش حتى التسعينات، مثل من كانوا قد نشروا رواياتهم منذ الخمسينات مثل مطاع صفدي (دمشق 1929 – 2016) صاحب ‘ثائر محترف‘ و‘جيل القدر‘، أو حسيب كيالي (إدلب 1921 – 1993) أو هاني الراهب صاحب ‘المهزومون‘ أو صدقي إسماعيل (اللاذقية 1939 – 2000) صاحب ‘العصاة‘”. ويبين أنه وحده حنا مينه (اللاذقية 1924 – 2018) كان حضوره روائياً يطّرد. وكانت قد صدرت له “المصابيح الزرق” و”الشراع والعاصفة”. ويتابع “هكذا ظهرت روايات السبعينات لكتّاب جدد، وأنا واحد منهم، بحضور من ذكرت، وهو ما كان بمعنى مّا تحدياً كما أحسب أنه كان فرصة ثمينة للتفاعل. وربما يمكن القول إن الأجيال هنا اشتبكت. وإلى ذلك كان النقد الأدبي بعامة، ونقد الرواية بخاصة، محدوداً، وفي الغالب: متواضعاً. وسرعان ما بدأت التبدلات، مع التشديد على ما كان لهزيمة 1967 من فعل في الجميع. لقد بدأت روايات من سبقونا تتوالى وتتألق، مثل روايات حنا مينه وهاني الراهب وحيدر حيدر ووليد إخلاصي. كما بدأت روايات السبعينيين تتوالى وتتقد مثل روايات غادة السمان وخيري الذهبي وآخرين ربما كان منهم هذا الذي يجيب على سؤالك. وبكل ذلك بدأت المغامرة الحداثية وبدأ التجديد والتجريب، وانفتحت صفحة جديدة في تاريخ الرواية السورية”. ما بين عالمين واقع سوريا أنتج طوفانا من الروايات (لوحة للفنان تمام عزام) واقع سوريا أنتج طوفانا من الروايات (لوحة للفنان تمام عزام) كون مشروع سليمان يجمع بين عالم الرواية وعالم نقد الرواية وفي كل منهما حقق حضورا عربيا لافتا، تساءلنا عن استفادة الروائي من الناقد والناقد من الروائي، ويجيبنا الكاتب “الناقد في ما كتبت وقرأت وعشت هو في خدمة الروائي. لولا الرواية ما كتبت حرفاً في نقدها، ولا في نقد النقد. أما كيف استفاد الروائي من الناقد، فألخصه بتعميق وإثراء وعي الذات، وعي الكاتب بكتابته. وأحسب أن الناقد استفاد من الروائي بالتخفيف من الرطانة، وبسلاسة الأسلوب، وتطوير الذائقة”. ولأن انشغالات وهموم سليمان في كلا العالمين الإبداعي والنقدي تذهب كثيرا إلى السياسة على اختلاف تشكلاتها وانعكاساتها على القضايا المجتمعية وتأثيراتها على حيوات الشخصيات. يقول “إذا كانت السياسة هي قدر الاجتماع البشري بعامة فهي بخاصة قدر هذا الذي يسمّى العالم العربي أو الإسلامي أو الشرق الأوسط أو أفريقيا. لقد أفقت في الدنيا على إيقاع هزيمة فلسطين (1948) والانقلاب العسكري (الشيشكلي) وحرب 1956 في مصر والوحدة السورية المصرية 1958. وتطوّح شبابي بين سيطرة العسكرة وحزب البعث على سوريا (والعراق) عام 1963 وهزيمة 1967 و.. هل أتابع العدّ؟”. الحديث عن التعالق والتناقض أدق تعبيراً من الحديث عمن يصنع الآخر السياسي الدكتاتور أم المثقف ويضيف “لا فكاك لك كمواطن – غالباً ما يُعامَل الواحد منا كحيوان، وليس كمواطن – من السياسة. ولا فكاك لك منها ككاتب. لكن للكتابة من السياسة انفكاك بقدر ما لها أن تتمثلها وتتشرّبها وتعيد صياغتها بالوعي النقدي وبالموقف النقدي. لا يقارن ما كلفتني السياسة في حياتي بما كلّفت به حيوات آخرين من كتّاب أو مثقفين أو مشتغلين بالسياسة من قريب أو بعيد. ماذا لمثلي أن يتكلم أمام من قضى في السجن عشرين سنة دون محاكمة، وبالحرمان من أبسط حقوق السجين؟”. ويتابع “لقد منعت السياسة روايات عديدة لي من التوزيع أو الطباعة في سوريا وفي خارج سوريا أحياناً. ومنعتني السياسة من السفر أحياناً. وجرّت السياسة عليّ الاعتداء الجسدي سنة 2001، والاعتداء على منزلي سنة 2011، لكن هذا كله بالكاد له أن يُذكر أمام ما جرّت السياسة الحاكمة والمعارضة من البلوى. وقد كان لكل ذلك فعلٌ ما في تكوين العديد من شخصيات رواياتي في مختلف الأجيال والمراحل. وهنا يأتي المهم والأهم وهو ألّا تتحول الرواية إلى سجال سياسي أو بوق سياسي أو منشور سياسي. أنت تعلم كم تحدث النقد عن ‘الرواية السياسية‘، حيث المعيار دوماً هو الفن”. وحول رؤيته إلى مسار الرواية السورية خاصة بعد أن دفعت الثورة السورية 2011 بالكثير من الكتّاب والكاتبات إلى المنافي. وقد ظهرت الكثير من الأعمال لمختلف الكتاب من مختلف الأجيال ومن بينها جيل جديد من الكتّاب والكاتبات.. يرى سليمان أن “ثمة طوفان روائي في سوريا كما في غيرها من الفضاء العربي. وأغلب الطوفان الروائي السوري هو ما ظهر في المنافي بعد الزلزال السوري 2011. بيد أن هذا ‘الأغلب‘ ناء الكثير الكثير منه تحت وطأة السياسة، وهنا قد يكون مفيداً وصحياً أن يُستعاد الجواب السابق. وليس ما ظهر في الداخل من روايات الجيل الجديد بأحسن حالاً. إنها التحديات الروحية والثقافية والإبداعية الكبرى، مثلما هي تحديات عيشنا الكبرى في الداخل والخارج”. دور المثقف ☚ ثمة طوفان روائي في سوريا كما في غيرها من الفضاء العربي، وأغلبه ما ظهر في المنافي ☚ ثمة طوفان روائي في سوريا كما في غيرها من الفضاء العربي، وأغلبه ما ظهر في المنافي لأنه عادة ما يقسّم النقاد أعمال الروائيين خاصة من يمتلكون مشروعا إلى مراحل كما حدث مع نجيب محفوظ وإدوارد الخراط وبهاء طاهر وغيرهم، نسأل سليمان عن مراحل مشروعه وما الذي يميز مرحلة عن مرحلة أخرى، وهنا يقول “سبق لي أن تحدثت عمّا أحسبه المرحلة الأولى من كتابتي الروائية، والتي بدأت عام 1970، وتمثلت في رواياتي الثلاث الأولى. وكان أن توقفت بعدها عن كتابة الرواية أربع سنوات، أنجزت خلالها بالاشتراك مع بوعلي ياسين كتاب ‘الأدب والأيديولوجيا في سوريا 1967 – 1973‘، كما أنجزت محاولة رائدة في نقد الكتاب المدرسي، عنوانها ‘النسوية في الكتاب المدرسي السوري‘، وهذا الكتاب سيغدو منذ طبعته الثانية – أيديولوجيا السلطة: بحث في الكتاب المدرسي”. ويضيف “عندما عدت إلى الرواية واجهت محرّم الكتابة عن المؤسسة العسكرية، وواجهت الهزيمة التي استبطنت حرب 1973. وفي ‘جرماتي‘ أو ‘ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب‘ و‘المسلّة‘ كما في ما تلاهما ‘هزائم مبكرة‘ بعد سنوات من التوقف عن كتابة الرواية، جاءت محاولة ما شاعت تسميته الآن: التخييل الذاتي، والذي بلغ في رواية ‘المسلّة‘ أن حملت شخصيتها المحورية اسم الكاتب ‘نبيل‘. وبعد ذلك جاء المفصل الحاسم في مرحلة جديدة عنوانها رباعية ‘مدارات الشرق‘، وهي المحاولة/النزيف/الحفرية التاريخية للتبصّر فيما أوصلنا إلى ما نحن فيه من التردي”. ويبين أنه “لاحقا ستستبطن وتعلن روايات تالية أخرى ذلك، حتى إذا زلزلت سوريا وزلزالها، وبدأ الحراك/الانتفاضة/الثورة، وبدأت العسكرة وتبددت العسكرة وتبددت السلمية، دخل مشروعي الروائي بعد أربعين سنة في منعطف مصيري تمثل حتى اليوم في أربع روايات، صدرت آخرها ‘تحولات الإنسان الذهبي‘ منذ أسابيع”. في كتابه “طغيانيادا.. حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد” طرح سليمان قضية الارتباط بين الثقافي والسياسي، وفي كتابه “في التباب ونقيضه” طرح سؤال الهوية وعلاقة بين الألوهة والدكتاتورية، الأمر الذي يدعو للتساؤل عمّن يصنع الآخر المبدع المثقف أم السياسي الدكتاتور.. يقول “هذان الكتابان هما أيضاً من سنوات الزلزال وعنهما، وهما بالتالي يتعانقان مع الروايات الأربع. وفي الكتابين كما في الروايات تعرية وتفكيك للأقنومين: المثقف والسياسي، وتعرية وتفكيك لما بينهما من تعالق أو تناقض. وأحسب أن الحديث عن التعالق والتناقض أدق تعبيراً من الحديث عمّن يصنع الآخر: السياسي الدكتاتور أم المثقف”. ويرفض سليمان أن تكون الثقافات الشرقية ثقافات استبدادية من الصين إلى روسيا إلى العالمين العربي والإسلامي، ويرى أنه “في الثقافات الشرقية، ومنها ثقافات العالمين العربي والإسلامي، الكثير والبديع والخالد من الروحانيات التي تناقض كل استبداد. وفيها الكثير والبديع والخالد أيضاً من الفكر النقدي وصبوات الحرية في الفنون والآداب، وكما في ثقافات العالم، حيث أيضاً تلك التشوهات والدمامة الفتاكة من ثقافة الاستبداد”. ويؤكد أن دور المثقف لا ينتهي في التغيير والإصلاح ما دام ثمة من يواجه بعينيه مخرز الفساد والاستبداد المحلي والعالمي. مادام ثمة مثقف لا يخدعه ما لهذا العصر من البريق العولمي، ولا تخدعه إغراءات الاستبداد والفساد، فلن ينتهي دوره. لكن هذا الدور يتبدل ويتجدد. ليس من وصفة ساحرة ومؤبدة هنا. الخالد والوحيد هنا هو النقدية والنزاهة، هو القيم الإنسانية النبيلة، قيم الحرية والمعرفة والجمال والعدالة.

مشاركة :