سياسة كسر العظم التي تتبعها الولايات المتحدة وأوروبا في مؤازرة أوكرانيا بمواجهة روسيا، تعد من التطورات الضاغطة بتأزم العلاقات بين هذه الأطراف التي تمتلك السلاح الكيمياوي والنووي والطيران الحربي والصواريخ الفتاكة والبعيدة المدى، من دون مراعاة التداعيات اللاحقة بدقة، ذلك سيجعل كل الخيارات مفتوحة أمام بوتين، ولا سيما نقاط القوة التي تتميز بها بلاده، وهي القوة العسكرية بخلاف دول حلف شمال الأطلسي« الناتو» التي تتميز بقوة سلاح الاقتصاد الذي تمارسه في هذه الحرب عقب غزو أوكرانيا والمعاناة الإنسانية التي لحقت بالناس المشردين بالجملة لعدد من بلدان مجاورة. وأبرز ما شغلت الرأي العام الدولي، هي من الطرف المستفيد من وقوع الحرب، ومن الطرف المنتصر، ومن الخاسر فيها؟ واقعا الحرب حصلت، والطرف البادئ بها هو الرئيس الروسي بوتين الذي يوصف بأنه آخر قادة العالم المتصلبين بمواقفهم وجرأة قراراتهم ويحكم بالقوة والمركزية في بلاده، يذكرنا بشخصيات حفرت مكانا لها في صفحات التاريخ مثل نابليون بونابرت وستالين وأمثالهما، بحيث عندما اتخذ قيصر روسيا قرار الحرب حتما وضع في الحسبان كل ردود الفعل الدولية وانعكاساتها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، لكن سوى بوتين يفعلها وغيره لا يجرؤ على ذلك. بوتين تغير وإدارة بايدن فعلت ما بوسعها لإقناع بوتين بعدم شن الحرب، وهددوه بالعقوبات لكنه أصر على الحرب، وقالوا له إذا ما مضيت قدما في الحرب فإنك تقامر بكل شيء، وقد راهن بكل شيء فعلا، وجاءت العقوبات الأوروبية الأمريكية وهي عملية استفزاز لبوتين، وهذه المجازفة في الحرب جعلت شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن في حالة تراجع حتى اللحظة. علينا أن ندرك أن هناك شيئا أخطر على العالم، عندما يكون بوتين خارق القوة فهو مشكلة، وفي حال بوتين أصبح خارق الضعف فإنه مشكلة أيضا. المهم لا بد من طرح سؤال هل ستقف الصين بجانب حليفتها روسيا في حربها ضد الغرب؟ ثم من هو الطرف المستفيد من الحرب هذه؟. وللإجابة عنه ينبغي النظر إلى طبيعة العلاقات التجارية بين الصين وروسيا، وأيضا لعلاقات الصين والولايات المتحدة تجاريا، فيظهر لنا المؤشر أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين خلال شهر يناير 2022 بلغ 26 مليار دولار، بينما بلغ مع الولايات المتحدة 123 مليار دولار. لذا فالصين لن تجازف وتضحي تماما بمصالحها الاستراتيجية وتقف بجانب روسيا، وتخسر السوق الأمريكي الكبير، كما أن الصين ستكسب كل الأطراف الدولية التي تخسرها روسيا في التعامل الاقتصادي. أما الأمريكيين فإنهم الطرف الرابح من جراء تلك الحرب التي ستكون نتائجها كارثية ومكلفة على كل من روسيا وبلدان أوروبا. والحرب بالنسبة إلى بوتين كانت أمرا حتميا، أو شرا لا بد منه، فقد كان يخشى انضمام أوكرانيا إلى الغرب لتكون دولة تنموية واقتصادها قوي، بل ودولة ديمقراطية، وهي محاذية لنظامه الاقتصادي، فهذه ستكشف عيوب في الإدارة الروسية وعيوب النظام الحاكم في بلاده. والصين اليوم هي صديق بوتين الوحيد، وعندما تكون الصين هي الصديق الوحيد، فأنت لا صديق لك، لأن الصين إما لديها أتباع وإما زبائن، وهذا يجعل الصين باحثة عن مصلحتها لا مجازفة بها من أجل روسيا، وكل قوة تضعف أمريكا، والغرب فإنه أمر طيب لدى الصين، كونها لا ترغب بزعزعة اقتصادها وزعزعة أمن العالم، بل هو أمر سيئ لها، لكون الحروب تضعفها وتحد من تناميها التنموي الشامل. وستكون حذرة على سمعتها، ولن تقبل أن تكون دولة منبوذة كما هي صورة روسيا البوتينية، وعلينا أن نعلم أن دول الغرب فرضت عقوبات ضد روسيا منذ 2014 في أعقاب ضم جزيرة القرم، واليوم تفرض عقوبات جديدة، وستفرض على روسيا لاحقا، لم نألف لها مثيل عبر التاريخ، فهي عقوبات صارمة، وعندما يتوقف ضخ الطاقة من النفط والغاز إلى الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان العالم الأخرى، فإنها ستكون أمام حالة انكماش اقتصادي صعب للغاية، وهي الفرصة التي كانت أوروبا تتحينها للنيل من طموحات قيصر موسكو الرجل الحديدي، لذا فالعقوبات غير مسبوقة ولا سيما بعد قطع نظام التحويل المصرفي «سويفت» التي أربكت حركة البنوك الروسية، وعرقلة بيع وشراء البضائع المختلفة، وإغلاق مئات الشركات الأجنبية لمكاتبها بروسيا وحظر الطيران المدني الروسي. على أية حال نحن أمام ثلاثة سيناريوهات للحرب الدائرة، الأول منها أن يواجه الجيش الروسي عقبات جمة في حرب خاسرة من دون بلوغ أهدافها التي خطط لها في إسقاط أوكرانيا، تحول دون تحقيق طموحات بوتين بل توجيه ضربة موجعة له، عندها سنكون أمام بلد معزول دوليا، ولا نعرف أي نوع من العالم سيكون، والسيناريو الثاني، يتجسد في ابتعاد أوكرانيا من حلم حلف شمال الأطلسي «الناتو» وتتخذ نهج الحياد في علاقاتها الخارجية، على أن تنتصر روسيا في الحرب وتسيطر على إقليم دونباس، وأن تتنازل أوكرانيا عنه وعن شبه جزيرة القرم الذي احتله روسيا عام 2014. والسيناريو الثالث، هو أن عناصر الحلقة المقربة والمحيطة بالرئيس بوتين ويعلمون معه، يرون أن الذي أطلقه بوتين سيدمر اقتصاد روسيا، وسيعجل برحيل بوتين عن رئاسة روسيا، لكن ذلك يعتمد على حجم القوة والفعل الغربي المساند لأوكرانيا، ولا سيما قد يكون موضوع الحرب هو فخ نصب لبوتين ليقع في تلك الورطة لمستقبله وبلاده. ولكننا بالنهاية أمام معارك طاحنة، وستكشف لنا الأيام المقبلة إلى أي مسار تتجه أمور الحرب بين الدولتين المتحاربتين، ومخاوف جدية بتطور الحرب لتشمل روسيا من جهة وأوروبا والولايات المتحدة مع أوكرانيا من جهة أخرى، وعند ذاك ستتجه الحرب إلى العالمية الثالثة كما بشر بذلك هنري كيسنجر. { إعلامي وأكاديمي عراقي
مشاركة :