كنت في نقاشٍ مع مجموعة من الأصدقاء حول أزمة الثقة بين المكوّنات المجتمعية والمذهبية في الخليج العربي، وهي أزمةٌ تظهر أعراضها على السطح بين فينة وأخرى، سواء في المواقف السياسية أو الدينية، وتبرزُ في صورة خطابات إعلامية عنيفة لفظياً، أو مواقف نافرة من الآخر المختلف مذهبياً وعرقياً ومناطقياً. هذا التوجس سلوكٌ شبه طبيعي، ليس لأنه هو الأصل، بل بمعنى أن وجوده نتيجة حتمية لمشكلة لم يتم الاشتغال على حلها بشكل جدي طوال سنوات مضت، وإنما عادة ما يتم التعامل معها عبر أسلوب المداراة أو التأجيل أو الإنكار! إذاً، إذا زال المرض، ستزول عوارضه. وعليه، إذا خُلقت بيئة صحية، تتعارفُ فيها المكونات المجتمعية والمذهبية والثقافية المختلفة على بعضها بعضاً، وتؤمن بحق كل مكون في الوجود، بل المشاركة التامة في بناء دولة وطنية، هي لمختلف مواطنيها، وليست حكراً على فئة من دون أخرى؛ إذا آمن المواطنون بذلك، وأدركوا معنى مفاهيم مثل: الدولة المدنية، العدالة، المساواة، المواطنة الشاملة، سيادة القانون، تكافؤ الفرص، احترام حقوق الإنسان، الحق في الاختلاف، التعددية... حينها ستجد المكوّنات المتنوعة في الخليج، أن تنوعها هذا عنصر قوة وثراء، وليس عامل تقاتل أو تشرذم أو تباغض. إن من أكثر الحقول التي يسودها "عدم الثقة" هو الحقل الديني، بسبب الصراع الطائفي – السياسي بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة، طوال عقود خلت. إن الاختلاف المذهبي بين الفريقين له قرون عدة، يعود لأزمنة غابرة. وهذا الاختلاف يمكن التعايش معه، من دون أن يفرض مذهب رأيه على الآخر، أو يحتكر الحقيقة لذاته، أو يمنع طرفاً من ممارسة شعائره وعقائده وفق ما يؤمن بها. أي أن الاختلاف الفقهي والعقيدي أمرٌ ممكن التنظيم. إنما الأزمة تشتد عندما يتم تحويل هذا التنوع المذهبي داخل الوطن الواحد إلى أحد عوامل التنافس والصراع السياسي والحزبي والأمني. لو أخذنا مثالاً، الاختلافات بين المسلمين السنّة والشيعة في الخليج العربي، فهي سابقة على العام 1979، وهي تباينات كانت تشتد في أوقات الضيق الشديد، إلا أنها لا تلبث أن تخبو، لأن عوامل تأجيجها كانت محدودة، وأيضاً قابلية الجمهور العام للتحزب والصراع كانت أقل. نشوء تيارات "الإسلام الحركي" السنّي، وصعود القراءات المتشددة للدين، والتي اتخذت التكفير منهجاً، وبلغت ذروتها تالياً مع احتلال جهيمان العتيبي للحرم المكي الشريف 1979، وما أعقبه من توسع سطوة خطاب "السرورية" و"الإخوان المسلمين"، تزامن مع قيام نظام الثورة الإسلامية في إيران، وعودة السيد روح الله الخميني إلى طهران، وتبشيره بمبدأ "نشر الثورة"، وما أفرزه ذلك من نشوء تنظيمات ثورية في عدد من الدول الخليجية، عملت على حمل السلاح ونفذت بعض الأعمال المخلّة بالأمن. المواطن الخليجي، الذي وجد نفسه أمام صعود كبير لحركات الإسلام السياسي، السنّية والشيعية، حوصر بحرب قاسية بين العراق وإيران، وحركة تحشيد للمقاتلين لـ"الجهاد" في أفغانستان، وعمليات تفجير لمصالح اقتصادية في السعودية والكويت... لتكون النتيجة لكل هذه "الأصوليات" أن تشكلت تنظيمات مسلحة، كـ"القاعدة"، "حزب الله الحجاز"، "حزب الله الكويت"، "داعش"... وسواها! هذا الواقع المعقّد، لم يكن هابطاً من السماء، بل هو ببساطة من رحم المجتمع، سواء قبل به أو رفضه، إلا أنه بات أحد أهم تمظهرات حراكه الديني – الثقافي، ولديه من الشدة ما يجعل التيارات الأخرى، الوطنية أو الليبرالية أقل قدرة على التأثير. الخطاب الأصولي، كوّن ثقافته الضاربة، وشكل وعي الناس، وخلق لهم تصوراً للدين، وهؤلاء الأفراد هم من درسوا في الجامعات، وتخرجوا فيها. بعضهم عمل في وظائف حكومية، وآخرون مدنية، وجزء في الوظائف العسكرية، وفريق كان يعمل في المساجد والأماكن الدينية للمذاهب المختلفة. ما أريد قوله: إن هذا الجيل الذي تأثر بالخطاب الأصولي الرافض للآخر، انتشر في مختلف زوايا المجتمع، وأمسك بمفاصل مهمة، وبات يطبق ما يعتقد أنه حق، وشرع، وأنه الطريق الأقوم! من هنا، حدثت مشاكل تتعلق بتمكين جماعات من دون غيرها، أو مذاهب من دون سواها، أو مناطق من دون بقية أجزاء الوطن. ولذا، نشب صراع سنّي – شيعي، وسلفي – صوفي، وديني – علماني، وسواها من الثنائيات المتضادة. لقد عملت هذه التيارات المتشددة على خلق كانتوناتها الخاصة، ولم يعد "الغيتو" مختصاً بمذهب أو منطقة أو قبيلة من دون أخرى، بل عاش الكثيرون داخل "غيتواتهم" الخاصة، ما جعل الريبة تتعمق، والثقة تتقلص، والمشاعر العدائية تنمو أكثر! قد يعتبر بعضهم في ذلك مبالغة، لكنني لا أعتقد أن ثمة مبالغة في الوصف السابق؛ وإلا ما سبب هذه الأمراض الاجتماعية والمشكلات الأمنية وقضايا العنف والإرهاب والتكفير التي شهدها الخليج العربي على مدى عقود؟ إن أولى خطوات الحل، هي المصارحة: أن ثمة مشكلة تعيشها المجتمعات الخليجية، وهذه المشكلة أدت لأن تضعف الثقة في ما بينها. الشفاء يتطلب: الشفافية، المواجهة العاقلة، المعالجة السريعة، بوعي وحكمة، ووفق خطة عمل، يكون أساسها "المواطنة" التي هي حجرُ الزاوية، ومن دونها ينهدم البنيان. لأن أي معالجة تأخذ صيغة طائفية أو مناطقية، هي تعميق للمشكلات، لا أكثر. في هذا الصدد، من الجيد استذكار الفكرة التي طرها الدكتور محمد الرميحي، في مقاله "قيد الدرس"، الذي نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، 5 شباط (فبراير) الماضي، حينما أكد أن "نجاح أي مشروع وطني يحتاج إلى جميع المكوّنات الاجتماعية، ويفشل بالضرورة أي مشروع وطني إنْ اعتمد على مكون واحد، وبمجرد ما أن تتجاهل الجناح الآخر فأنت في طريقك إلى الفشل"، مضيفاً أن "حضن الدولة الوطنية والتعامل مع القضايا من داخلها، هو المكان الأسلم والأكثر نجاعة في تحقيق الغايات الوطنية". "الدولة الوطنية" هي إذن الفضاء الذي يمكن أن تحدث فيه النقاشات، وتُبنى فيه الثقة بين مختلف المكونات، وتنظم فيه الاختلافات، لأن القانون حينها سيكون الفيصل، لا شيء سواه... وللحديث تتمة.
مشاركة :