عندما كتبتُ في بداية رحلتي الشعرية أقول: "يا شعرُ يا حقيبةَ الإله" لم أكن أدرك المعنى الكامن وراء هذا السطر الشعري. وعندما أخذت أفكر في المعنى وما يحمله من رؤى ودلالات وتأويلات وانبعاثات، وجدت فيه الكثير مما يمكن أن نذهب إليه، وما يمكن أن يرمز إلى أهمية الشعر وخطورته في حياتنا، فهو الحقيبة التي يضع الله فيها أسراره وأسرارنا، بل أسرار الوجود وقصة الخلق من مبتداه إلى منتهاه. هو الحرف المضيء والوضيء بين الكاف وبين النون، ويمنحه لبعض عباده المخلصين من وراء حجاب، وهم الموهوبون من الشعراء. أو أنه المكتوب في اللوح المحفوظ، فما من كتابة في هذا اللوح سوى الشعر، بما يحمله من معاناة الإنسان وآلامه وأحلامه في رحلة الحياة. لذا كنت أعتقد أن الشعر قبسٌ من الرحمن، وأن الشاعرَ الفذَّ بين الناس رحمنُ. أو كما قال عباس محمود العقاد: والشعر من نفسِ الرحمن مقتبسٌ ** والشاعرُ الفذُّ بين الناس رحمنُ وكنتُ قد كتبتُ الجملة الشعرية "يا شعر يا حقيبة الإله" قبل أن أقرأ قصيدة العقاد التي أتذكر أن عنوانها كان "الحب الأول". ولكنني أمضي بعد ذلك في قصيدتي المبكرة التي حملت عنوان "قراءة في دفتر الشعر" فأقول: يا شعر يا حقيبة الإله مسافرٌ أنا .. إلى بلادِك السحيقة فربَّما أعانقُ القصيدة العريقة وربما أرى الإلهَ يكتبُ القدر يقولُ للقصيدِ: كُنْ. فيسَّحِر. ويبدو أنني في تلك الفترة كنتُ أومن برسالية الشاعر، أو أن الشاعر مبعوث إلهي من الله للبشر، أو أنه رسولٌ من خلال تلك الموهبة الشعرية التي لا يمنحها الله للكثيرين، أو هو حامل الحقيبة الإلهية المليئة بالشعر المنحاز للحق والخير والجمال، وللإنسان وللموسيقى والألوان. ولكن بعد ذلك اكتشفت أن للشعر أدوارًا أخرى، ورسائل مغايرة تنحاز أيضا للإنسان، مثل دور الشعر في حفز الهمم الإنسانية، وخاصة الشعر الغنائي الذي استمعنا إليه أثناء حرب السادس من أكتوبر على سبيل المثال. إلى جانب الشعر العاطفي الذي يصف مشاعر الإنسان ويتجول في أعماقه وإنسانيته ويفضح قدرته على العشق والتسامي، والحب الدفين الذي يكنّه الرجل للمرأة شريكة الحياة، والمرأة للرجل الذي خُلقت من ضلعه. كما أدركتُ أن الشعر يتعامل مع اللغة في أصفى صورها وأجلّ تراكيبها، فنقول على الجملة النثرية التي تحمل قدرا من التركيب الشعري إنها جملة شعرية حتى وإن لم تكن موزونة على البحور الخليلية. لذا قال البعض إن الشعر نشاط لغوي في المقام الأول، لأن اللغة تتجلى في التراكيب الشعرية الجديدة، وفي الصور الشعرية المبتكرة بطريقة مدهشة ومفاجئة، قد لا نجدها عند الكتاب الآخرين إلا قليلا، وبطريقة ربما تفاجئ نقاد الشعر أنفسهم، فلا يملكون لها تفسيرا أو تأويلا في بعض الأحيان. الشعر يتجول داخل الأعماق الإنسانية ويحاول أن يحافظ على التوازن ما بين الداخل الوجداني الرمزي الرومانسي النوراني، وبين الخارج العبثي السريالي المأزوم الذي قد يرتد إلى الداخل مرة أخرى، ويمر من خلال وعي الشاعر إلى لاوعيه، ثم يحاول الخروج مرة أخرى في ثوب آخر. وعندما لا يفلح تسقط الكلمة ويسقط الحرف فيتصدّع شيءٌ في الإنسان، ويصير القمرُ ترابًا يتهجَّى في الأحجار، ويصيرُ الماءُ سرابًا يتناسل في الشيطان. ولكن عندما تخرج الكلمة النورانية، وتصعد يصبح الحرف رموزًا للأقدار. ويضحى الشعر حقيبة للإله. لأردد ثانيةً: يا شعرُ يا حقيببةَ الإله لي بسمةٌ مهاجرة فآنسَ الشموسَ كي تُضيئ دربيَ الملئَ بالعسس واقبضْ على فزَّاعة الظلام واستلهمَ الحروفَ واحضن السلام. ولكن ماذا عن وضعية الشعر الآن؟ مَنْ يتأمل مشهد الشعر العربي والعالمي الآن، سيرى تراجعا ملحوظا لهذا المشهد إزاء تسيُّد أشكال أدبية أخرى تتقدم المشهد الأدبي الآن مثل الرواية، وهذا يترجمه فوز عدد كبير من الروائيين بجوائز عالمية كبرى مثل جائزة نوبل، ورصد جوائز أخرى كبرى للرواية على المستوىين العربي والعالمي. بل لجأ عدد كبير من الشعراء العرب إلى كتابة الرواية، ربما لأنها الأكثر استجابة لمشروعاتهم الأدبية ورؤيتهم للعالم، فانتقال بعض الشعراء إلى كتابة الرواية، أو على الأقل مزاوجتهم بين الكتابتيْن، مما يُعتقد معه أن هذا الانتقال قد يفيد الرواية. وقد علق أحد الباحثين قائلا: إنه موسم الهجرة إلى الرواية. ولكن هذا الباحث يعود فيقول: مع كل ما يقال عن الرواية وصعودها الراهن، يظل الشعر أكثر فنون القول التصاقا بهواجس الفرد وعالمه الداخلي الذي يعج بالحنين والتحدي والإحباط. ومن خلال دراسة تقرير حالة الشعر العربي الآن في الأقطار العربية كافة، نستطيع أن نستخرج بعض الإشارات منها أن الشعر العربي الراهن لم يعد الشعر منشغلا بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي انشغل بها نظيره في العقود السابقة، فانشغاله الأساس أصبح تأمل الذات في كوامنها أو في علاقاتها سواء بالوجود أو بالعالم أو بالآخر، مما أدى إلى ابتعاد الشعراء عن التفاعل مع حركة مجتمعاتهم وقضاياها الكبرى، وجعلهم ينتجون نصوصًا لا تنجح في خلق تواصل مع قارئ يبحث عن الخيط الذي يرشده لفهم النص والاستمتاع بجمالياته. فضلا عن نشأة جيل جديد منقطع مرجعيا عن شعراء القرن الماضي، وهو الجيل الذي يجرب كل أشكال الكتابة من دون عقدة إجناسية، ولا تموقع أمام الأشكال الكتابية، وهو ما يمثل اختراقا إبداعيا داخل المنظومات المغلقة للشعراء المكرسين. كما لاحظنا أن هناك رؤيتين متناظرتين للحداثة الشعرية تسيران نحو المستقبل في اتجاه واحد، ولكن بسرعتين مختلفتين: رؤية تقليدية تنادي بالانتصار للشعر العمودي والمحافظة عليه، وترجيح كفته بالوقوف في وجه النماذج الكتابية المتحررة من الوزن والقافية وتساوي الشطرين، ورؤية حديثة تحاول أن تستجدي التجارب الغربية والعالمية في أقصى ما يحققه التجريب في الفكر الإبداعي العالمي على الرغم من العوائق التي تقف أمام الاختراق السلس للبنيات التقليدية للثقافة العربية. وقد أثبت هذا التقرير أن قراءة الشعر في تراجع مستمر، وأن هناك تراجع في منشورات الشعر ونقده، وأن الإعلام لا يفي الدواوين الشعرية حقها. وأن الشعر ينتعش في حلقات ضيقة، حيث إنه لم يعد جماهيريا، مع انحسار "المهرجانات" الشعرية الكبيرة، ويبدو أن الجمهور فقد شغفه القديم بالقصيدة. وقد لجأ بعض الشعراء إلى النصوص الشعرية القصيرة جدا، وما يلزمه من تكثيف النصوص واختزالها في شكل لمحات وإشارات، وهو ما أسماه بعض الباحثين بـ قصيدة الومضة التي شملت قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. ولم تعد أغلب القصائد تسير نحو التصنيف والوقوف على الغرض، إذ باتت أكثر تعقيدا وأشد تشابكا، فباتت بنت التأويل وعدم التمكين، أي لا تمكن القارئ منها عبر آليات الغموض والترميز التي تبوح ولا تقول، وتلمح أكثر مما تصرح. بالإضافة إلى ما سبق تنازع الشعر العربي فنّان السرد والشعر العامي (اللغة المحكية) وربما استطاعا أن يسحبا البساط من تحت الحضور الطاغي الذي ظل الشعر يتمتع به لقرون سلفت، حيث لوحظ الرواج والحضور الطاغي للسرد/ الرواية باعتباره فن التفاصيل. كما لوحظ أن عدد النساء من الشواعر بات كبيرا إذا قيس بالفترات الشعرية السابقة، على مستوى الوطن العربي، وبظهور الأصوات الشعرية النسائية أصبح للشعر واقعا أقوى. وعلى الرغم من انتشار قصيدة النثر، وهيمنتها على المشهد الحالي، فإن كتاباتها جاءت باهتة، ولم تؤصل تيارا شعريا واضحا، بل أن معظم الشعراء الذين كتبوا قصيدة النثر، لم يخلصوا لها، إذ أنهم سريعا ما ارتدوا إلى قصيدة التفعيلة أو العمودية أو تسربوا إلى عالم السرد، بينما اعتقد أحد المتابعين أنها قوضت البناء التفعيلي، ورأى باحث آخر أنه من الخطأ الفادح تصور انفصال الإيقاع في قصيدة النثر انفصالا كاملا عن إيقاع الشعر العربي، بينما قال باحث ثالث إن ثمة من يدافع عن قصيدة النثر وكأنها بنت اليوم، متناسين حقيقة كبرى أن هذه القصيدة قد شبّت عن الطوق منذ زمن بعيد، وأن الدفاع عنها يكاد ينحصر في الأجيال الجديدة من كتابها فقط، خوفا من مصير ما، يترصدهم مع كل نص جديد يكتبونه. ولنا أن نلقي نظرة أيضا على أحوال نقد الشعر، فقد لوحظ أن المنجز النقدي هو الحلقة الأضعف، وأن الدراسات النقدية الخاصة بالشعر قليلة نسبيا حتى في الرسائل والأطاريح الأكاديمية قياسا بالدراسات السردية. وأن حال النقد الشعري يتراجع بقوة.
مشاركة :