يجد قارئ كتاب "الإنسان والبحث عن المعنى" لفيكتور فرانكل الكاتب النمساوي "1905 - 1997" صعوبة كبيرة في تصنيفه، فهو محور تداخل ثلاثة مجالات معرفية، السيرة الذاتية وأدب السجون وتنظيرات علم النفس، مع إخلاص صاحبه لمتعة في الأسلوب، قلما تكون في مؤلفات التأصيل والتنظير في علم النفس. ما سبق وأشياء أخرى مرتبطة بسيرة فرانكل - الذي حصد 29 دكتوراه فخرية، عن إرث معرفي بلغ 32 كتابا، متداولة بأكثر من 20 لغة - تبعد الكتاب عن دائرة كتب التنمية البشرية التقليدية، ذات الشطحات والمبالغات، نحو أفق فكري واسع، يؤسس لمدرسة ثالثة في علم النفس الحديث. صدر الكتاب 1946، يروي تجربة حياة، مدتها ثلاثة أعوام "1942 - 1945"، قضاها الدكتور فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي ورئيس قسم الأعصاب في مستشفى روتشيلد في فيينا، داخل معسكر "آوشويتز"، أحد مراكز الاعتقال التي أنشأتها النازية خلال الحرب العالمية الثانية. وترجم إلى اللغة العربية 1982، بعنوانين مختلفين، أحدهما "الإنسان يبحث عن المعنى (مقدمة في العلاج بالمعنى - التسامي بالنفس" (دار القلم الكويتية)، والآخر "الإنسان والبحث عن المعنى - معنى الحياة والعلاج بالمعنى" (دار الأنجلو المصرية). يقدم الكتاب قصة ملحمة إنسانية، تمزج تفاصيلها ما بين التجربة الذاتية للكاتب، مضافا إليها التحليل النفسي لشخصيات المساجين وتطور حالاتهم النفسية والعقلية، والتأصيل للمبادئ الرئيسة لمذهب العلاج بالمعنى، ثالث مدرسة في علم النفس الحديث. تؤسس تجربة الاعتقال إذن ثالث أضلاع مثلث التحليل النفسي، بعد فرويد صاحب مبدأ إرادة اللذة والمتعة، وآدلر بمبدأ إرادة القوة والمكانة. يقدم فرانكل مبدأ "إرادة المعنى"، فالمعنى أساسي في حياة الإنسان. هكذا تتوزع المذاهب الثلاثة، بشكل تتابعي، وفق النمو الإنساني، فاللذة في نظرية فرويد موجهة إلى الطفل الصغير، والقوة في نظرية آدلر مطابقة للمراهق، بينما "إرادة المعنى" مبدأ موجه إلى الشخص الراشد الناضج. بعيدا عن مذاهب علم النفس، يسرد فرانكل قصة إصراره على الحياة، بعدما فقد أسرته في المعسكر، وذهب كل ما يملكه أدراج الرياح. وصار مجرد رقم، 119 ثم 104 لاحقا، في قائمة الأسرى، يخوض في كل مرة معركة حتى لا يوضع رقمه في قائمة الضحايا، رغم علمه بأن كل شخص يتم إنقاذه، توجد ضحية أخرى تحل محله. وأضحت الحياة بلا قيمة، بعدما تحطم كل شيء، حيث عانى الجوع والبرد والقسوة، وهوس توقع الإبادة في كل ساعة. في خضم هذه الخيوط الواهية والظروف الشاذة، نجح الطبيب النفسي في تلمس معنى للحياة، جعلها جديرة بالبقاء، ولسان حاله يردد مع الفيلسوف نيتشه "إن من يجد سببا يحيا به، فإن بمقدوره، غالبا، أن يتحمل في سبيله كل الصعاب بأي وسيلة من الوسائل". وعلى صعيد آخر، يؤكد صدق مقولة دوستويفسكي "بكوا في أول الأمر، ثم ألفوا واعتادوا، إن الإنسان يعتاد كل شيء". وهذا ما أثبته بنفسه في المتن، "نعم، يستطيع الإنسان التعود على أي شيء، لكن لا تسألنا كيف يتأتى ذلك"، عند الحديث عن التغير الذي يلحق البشر في الأزمات لدرجة النقيض المتطرف. "لقد تأقلم أزيد من 1500 أسير مع التجمع تحت سقيفة لا تتسع لأكثر من 200 شخص، وارتدى الجميع قمصانا لمدة نصف عام، إلى درجة أنها كانت تفقد كل معالم كونها قمصانا. وكانت تمر على الرجل أيام مثيرة لا يستطيع فيها أن يغتسل، حتى ولو جزئيا، بسبب تجمد المياه في الصنابير. أما تنظيف الأسنان فلا سبيل إليه ولو في الأحلام".. وهلم جرا من الوقائع الذي جعلته يعترف بأن من كان من رجال الطب في المعسكر تأكد أن "الكتب تحكى الأكاذيب. يقال مثلا إن الإنسان لا يمكنه البقاء بدون نوم لعدد مقرر من الساعات. وهذا خطأ تماما". أدرك الكاتب في لحظة معينة أن ما يملكه على وجه التحديد هو وجوده المتعري أو المتجرد. لكن هذا لا يعني العدم، فلا يزال ممتلكا آخر الحريات الإنسانية، إنها "الحرية الغائية"، أي قدرة الإنسان على أن يختار اتجاهه من بين مجموعة من الظروف، التي اعترف بها الفلاسفة الرواقيون القدامى، وكذلك الوجوديون المحدثون. هذه الحرية وحدها، كانت كافية كي يعيد فرانكل صياغة معادلة الحياة من جديد، معلنا أنه "لكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة". "إن المعاناة تتوقف عن أن تكون معاناة بشكل ما في اللحظة التي تكتسب فيها المعاناة معنى"، نعم هكذا حاول الطبيب النفسي اشتقاق المعنى من اللامعنى بحد التجربة، حتى صارت حياته صراعا بين الأضداد. ففي لحظة ما وجد الدكتور فرانكل - الذي طالما تحمل الإهانات، ورفض أي تمرد حرصا على حياته - معنى في الموت، حين تطوع لمعالجة المصابين بالتيفوس، ويتنقل معهم رغم ما في ذلك من مخاطر، معتبرا أنه "لو مات، وهو يحاول إنقاذهم، فسيكون راضيا عن ميتة لها معنى". ينتصر الكاتب لحرية الإرادة، "الحرية الداخلية لا تفتقد، ضد تيار (الحتمية الشمولية) التي ترى الإنسان مفعولا به على الدوام، تتقاذفه الأمواج النفسية والحياتية، من دون أن يملك تغييرا". "فالإنسان - حسب فرانكل - ليس مشروطا أو محتوم السلوك بصورة كلية، لكنه يقرر نفسه. الإنسان ليس ببساطة أمرا موجودا، بل هو يقرر دائما وجوده الذي سيكون عليه". لذا يطالب بالغوص في عمق الوجود الإنساني، "ويل لمن لا يرى في الحياة معنى، ولا يستشعر هدفا أو غرضا لها، ومن ثم لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة". يقدم المؤلف تجربته الذاتية نموذجا، حين بحث عن المعنى في قلب المأساة، فلم تستطع سجون النازية أن تنزع منه إنسانيته، ولم تمنعه من الانشغال بإيجاد سبب يحيا من أجله. سرد يمكنه مساعدة الإنسان، حتى يفهم كيف يستطيع أن يوقظ في نفسه الشعور بأنه مسؤول أمام الحياة، مهما بدت ظروفه قاسية. لكل ذلك يخبرك بأنه "في النهاية لا ينبغي للفرد أن يسأل عن معنى حياته، بل لا بد له من الاعتراف بأنه هو من يطلب ذلك المعنى".
مشاركة :