مضى عام على انتفاضة «قرود وول ستريت»، وهم مجموعة تُعد بالملايين من المستثمرين الشباب في الولايات المتحدة يجمعهم الاعتقاد بفساد سوق الاستثمار في الأسهم وانعدام العدالة وقلة الشفافية، وهذه التسمية هم الذين أطلقوها على أنفسهم. كانت جهودهم متفرقة في الماضي، ولكن التقدم السريع في تقنية وسائل التواصل ومنصات المتاجرة في الأسهم مكنهم من تنسيق جهودهم وتبادل المعلومات والتحرك جماعياً لتحقيق أهداف معينة من خلال موقع «ريديت» الشبيه بشبكة تويتر والذي ارتفع عدد المشتركين فيه من 2 مليون إلى 8 ملايين بعد انتفاضة القرود في شهر يناير 2021 التي هزت السوق وفاجأت الجميع بقدرتهم على التأثير في أسعار أسهم بعض الشركات. بدأ تحرك القرود في يناير 2021 عندما نشر أحدهم على موقع ريديت أن عدة صناديق تحوط استثمارية قد راهنت على إفلاس شركة «جيم ستوب» (Game Stop) التي تمتلك مئات المحلات التي يمارس فيها الصغار ألعاب الفيديو في العديد من المجمعات التجارية. فقد قامت مجموعة من هذه الصناديق بعملية بيع قصير (Short Selling)، أي استعارة أسهم شركة جيم ستوب وبيعها على أمل شراء الأسهم بعد انخفاض سعرها وإرجاعها لأصحابها (وهم في العادة سماسرة الأسهم) وتحقيق ربح يُمثل الفارق في سعر السهم. ولكن لم يكن في حسبان هذه الصناديق أنها دخلت عرين القرود الذين قرروا الانتقام بشكل لم يشهده تاريخ الاستثمار في البورصات العالمية. كانت جيم ستوب صورة عن الماضي الجميل لهؤلاء الشباب الذين أمضوا طفولتهم يمارسون ألعاب الفيديو في محلاتها. ولكن في السنوات القليلة الماضية واجهت الشركة تراجعاً حاداً في الايرادات بسبب المنافسة الشديدة من منصات الألعاب الألكترونية على الإنترنت، واعتقد بعض الصناديق الاستثمارية أن الشركة أصبحت لقمة سائغة للمراهنة على هبوط قيمة أسهمها. ومع جائحة كورونا وإغلاق محلاتها، بدت الشركة على حافة الانهيار. شرارة الانتفاضة بعد انتشار خبر رهان صناديق التحوط على موقع ريديت، اتفق القرود على حماية الشركة من طمع الصناديق التي يتهمها البعض بأنها لا تكترث إلا بتحقيق الأرباح وتعمل في الظلام، خصوصاً وان ملايين الأسهم الوهمية قد تم بيعها لتحطيم سعر السهم (Naked Selling). وبدأ القرود بشراء الأسهم لحرمان الصناديق من إعادة شراء الأسهم بسعر أقل وإرجاعها لأصحابها. وخلال أيام حدث ما لم يخطر على قلب مدراء الصناديق، وكان لا بد من إعلان الهزيمة والانسحاب بخسائر لم يشهدها تاريخ مضاربات البيع القصير للأسهم. أدى قيام الشباب بشراء الملايين من أسهم جيم ستوب إلى ما يسمى بعملية البيع المضغوط (Short Squeeze)، أي حدوث نقص كبير في الأسهم المعروضة للبيع ومن ثم ارتفاع سعر السهم بشكل هائل بسبب حاجة الصناديق لشراء الأسهم وإرجاعها للسماسرة وفق الوقت المتفق عليه. كان سعر سهم جيم ستوب 17 دولارا في أواخر عام 2020، وبعد إقبال القرود على الشراء والاحتفاظ بالأسهم، بدأ السعر يرتفع بحدة، وخلال أقل من شهر بلغ 350 دولارا للسهم الواحد، أي بزيادة مقدارها 1800% تقريباً. كان صندوق ميلفين كابيتال مانجمنت أول الصناديق المنسحبة من المعركة بعد تكبده خسائر بلغت حوالي 4 مليارات دولار وإعلان حاجته للدعم من شركات استثمارية أخرى لمنع إفلاسه. ويقدر خبراء إجمالي خسائر الصناديق التي ضاربت ضد جيم ستوب بأكثر من 20 مليار دولار. هذه الخسائر هزت السوق ودفعت بعض منصات تداول الأسهم، وعلى رأسها شركة روبن هود التي يستخدمها نسبة كبيرة من الشباب، الى وقف عمليات شراء أسهم جيم ستوب من قبل المستثمرين الأفراد بهدف وقف الارتفاع المتواصل في سعر السهم ومن ثم حماية مصالح الصناديق الاستثمارية. ولكن كان الوقت متأخراً جداً، وقرر القرود أيضاً محاربة روبن هود التي دفعت ثمناً باهظاً في وقت لاحق بعد طرح أسهمها للاكتتاب العام ومقاطعة القرود لها. بالطبع هذا الانفجار الهائل في سعر سهم جيم ستوب في ذلك الحين قد مكّن العديد من الشباب، والمستثمرين الذين توقعوا ارتفاع سعر السهم نتيجة شح الأسهم المتاحة للشراء، من تحقيق ثروات خيالية في وقت قياسي. وقد قام أحد القرود بنشر استثماره في هذا السهم على موقع ريديت، حيث استثمر 50 ألف دولار في شراء أسهم وخيارات شراء الأسهم (Call Options) ارتفعت قيمتها خلال أيام إلى 47 مليون دولار. ولكن هذه المعركة الأسطورية بين شارع وول ستريت وشارع الناس لم تخل من الآلام للعديد من الشباب الذين أخذتهم الحماسة واشتروا أسهم الشركة عند الذروة. فقد تراجع سعر السهم في الأسابيع اللاحقة إلى 100 دولار، مكبداً العديد من هؤلاء الهواة كل ما يملكون من أموال. المعركة تتجدد مرت عدة شهور بعد انتهاء معمعة جيم ستوب وظن البعض أن ظاهرة قرود وول ستريت قد انتهت. ولكن يبدو أن انتقام القرود لا يتوقف. في شهر مايو 2021 كان هناك ضحية جديدة لجائحة كورونا جعلتها تبدو فريسة سهلة لصناديق التحوط، وهذه الشركة هي شركة دور السينما الأمريكية ايه أم سي (AMC). فالشركة كانت تعاني من تراجع الايرادات، ولكن بعد إغلاق دور السينما بسبب الجائحة وهبوط عدد زبائنها بنسبة 92%، اضطرت الشركة إلى اقتراض مبالغ كبيرة جعلت العديد من المراقبين في السوق يعتقدون أنها لن تستطيع أبداً سدادها. مرة أخرى كشّر بعض صناديق التحوط عن أنيابه استعداداً للانقضاض، فيما شحذ القرود سلاحهم لتكسير الأنياب. كان شعار «أنقذوا ايه أم سي» على موقع ريديت قد أوقد نار الانتقام مجدداً لدى القرود الذين أيضاً تربطهم ذكريات جميلة بدار السينما. وبعد انتشار نبأ قيام الصناديق بعملية بيع قصير لأسهم الشركة، بدأ الشباب بالشراء والاحتفاظ بأسهمها لرفع سعره وقطع الطريق أمام الصناديق. خلال أيام معدودة قفز سعر السهم من 12 دولارا إلى 72 دولارا، مكبداً الصناديق خسائر تجاوزت 1.2 مليار دولار. جيش القرود انتصر للشركة التي ارتفعت قيمتها السوقية من 750 مليون دولار إلى 32 مليار دولار في ذلك الوقت. ونجح رئيس الشركة آدام أرون بالتواصل مع القرود من خلال حسابه في تويتر، ثم قامت الشركة بطرح أسهم جديدة للحصول على التمويل وسداد القروض. دراما وول ستريت في بداية العام الماضي تركت أثراً كبيراً في المجتمع الأمريكي وأدت إلى زيادة مستخدمي منصات تداول الأسهم بشكل كبير. التعاطف مع صغار المستثمرين كان هائلاً وانتشرت الرسومات الكرتونية لقرود وول ستريت في كل مكان. حتى أن محطة سي إن بي سي المتخصصة بأخبار الاستثمار استضافت بعض قادة القرود من أصحاب مواقع يوتيوب الشهيرة وأنتجت برنامجاً عن هذه الظاهرة التي ألهمت مخيلة المجتمع الأمريكي. قرود وول ستريت أصبحوا أخيراً قوة لا يستهان بقدرتها على التأثير.
مشاركة :