كثيرة هي التداعيات التي رتبتها الأزمة الأوكرانية والتي تجاوزت حدودها الجغرافية ليس فقط على الصعيدين الاقتصادي والإنساني بل على صعيد الشراكات وأسسها ومتطلبات تطويرها مستقبلاً ومن بينها شراكات دول الخليج العربي مع القوى الكبرى والمنظمات الدفاعية «الناتو» فدول الخليج قد حرصت على تأسيس علاقات استراتيجية مع تلك القوى على مر تاريخها كأحد أهم الخيارات الدفاعية للدول الصغرى سواء أطلق عليها شراكات أو تحالفات، تلك العلاقات التي خضعت لاختبار حقيقي غير ذي مرة إبان الأزمات والتحديات الأمنية التي شهدتها المنطقة وكانت تشي بإحداث تحولات جذرية في توازن القوى الإقليمي ابتداءً بالحرب العراقية - الإيرانية 1980-1988 من خلال قيادة الولايات المتحدة لتحالف دولي لحماية ناقلات النفط الخليجية من الاعتداءات خلال تلك الحرب «عملية الإرادة الجادة»، ومرورا بقيادة الولايات المتحدة تحالفاً دوليا لتحرير دولة الكويت عام 1991 وانتهاء بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما ترتب عليه من تداعيات، إلا أن إمعان النظر في تلك الأزمات يعكس حقيقة مفادها أنها ضمت الولايات المتحدة وشركاءها من دول الخليج العربي في مواجهة تهديد إقليمي مشترك سواء أكان أمن الطاقة أم التهديدات الإرهابية، بل إن تلك الشراكات قد تم اختبارها ضمن آفاق جغرافية أكبر نطاقاً وهو الأمر الذي يتجلى في ثلاثة مؤشرات الأول: مشاركة بعض دول الخليج العربي أعضاء مبادرة إستانبول في تقديم الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية لحلف الناتو في ليبيا عام 2011، وثانيها: الدعم اللوجستي الذي قدمته بعض دول الخليج العربي بإجلاء رعايا الدول الغربية من أفغانستان بعد قرار الولايات المتحدة الانسحاب خلال العام الماضي وكان محل تقدير وإشادة من جانب الولايات المتحدة، وثالثها: دور دول الخليج العربي ضمن التحالف الدولي لمحاربة داعش الذي تأسس عام 2014 ويضم 84 دولة. ومع أن تلك الشراكات كانت محلاً للاختبار ضمن الإطارين الخليجي والإقليمي الأوسع فإنها لم تكن كذلك ضمن أزمة دولية على غرار الأزمة الأوكرانية التي مثلت اختباراً جديداً لمضامين تلك الشراكات وهو ما آثار تساؤلاً وجيهاً مؤداه: هل تكفي الجوانب الأمنية للشراكات بمعناها التقليدي أم أن هناك حاجة إلى تضمينها الأبعاد الاقتصادية، فضلاً عن الالتزام من جانب الدول الكبرى بأمن دول الخليج العربي وخاصة على الصعيد الإقليمي كالأزمة اليمنية، بالإضافة إلى الأبعاد السياسية؟، صحيح أن المعادلة التقليدية التي حكمت السياسات الغربية عموماً في تأسيس شراكات مع دول العالم هي تحقيق التوازن بين المصالح والقيم، إلا أنه يجب أن يضاف إليها تلبية الاحتياجات الأمنية لدول الخليج العربي سواء على صعيد تهديدات الأمن الإقليمي أو دعم القدرات الدفاعية لدول الخليج العربي بشكل نوعي وخاصة على صعيد التكنولوجيا العسكرية في ظل استهداف طائرات الدرونز للمنشآت الحيوية في دول الخليج. بقراءة بعض المواقف الخليجية تجاه الأزمة الأوكرانية يمكن استنتاج أمر مهم مفاده أن تلك الأزمة لم تكن اختباراً للشراكات الدولية لدول الخليج والتي لديها علاقات متميزة سواء مع الولايات المتحدة أو روسيا وكذلك حلف الناتو فحسب ولكنها بمثابة إعادة قراءة لمضامين تلك الشراكات لتعكس ثلاثة أمور أولها: الأمن الاقتصادي وتأثيره في مسار تلك الشراكات وهو ما تمثل في الجدل بشأن استقرار أسواق النفط العالمية ودور دول الخليج تجاه تلك القضية والتي واجهت معضلة تتمثل في الالتزام باتفاقيات دولية بشأن معدلات ضخ النفط في الأسواق العالمية ومقتضيات الشراكات الاستراتيجية مع الدول الكبرى الأخرى، وثانيها: حتمية التلازم بين البعد الأمني ونظيره السياسي، بمعنى آخر مع أهمية مصالح دول الخليج ومخاوفها الأمنية والتي يتعين أن تؤخذ في عين الاعتبار سواء على صعيد المواقف الدولية أو داخل دهاليز المنظمة الأممية فإن ثمة ضرورة لإعادة تأكيد خصوصية الدول الخليجية وخاصة في ظل ما تثيره بعض المؤسسات والجهات داخل الدول الكبرى بشأن قضايا حقوق الإنسان وغيرها من خصوصية النظم الاجتماعية عموماً، وثالثها: إعادة تأكيد حتمية الاستمرار في نهج تنويع الشراكات الدولية في ظل تنوع مصادر القوة لدى الأطراف الدولية والتي لا تقتصر على الجوانب الأمنية فحسب. وتأسيساً على ما سبق فإذا كانت الدول الكبرى مدعوة إلى إعادة النظر في مضامين الشراكات الاستراتيجية مع دول الخليج العربي بما يتضمن كل المصالح والتهديدات التي تواجه تلك الدول وتمثل تهديدات للدول الكبرى في الوقت ذاته ليس أقلها أمن الطاقة بمفهومه الشامل سواء تحقيق استقرار أسعار النفط أو حماية منشآت الإنتاج والممرات البحرية الحيوية لنقل النفط فإن دول الخليج العربي مدعوة في الوقت ذاته لإيلاء مسألة إدارة الأزمات الاقتصادية الدولية أهمية بالغة وهو الموضوع الذي كان مضمون نصيحة وجهتها إلى ابنتي التي تدرس الاقتصاد في إحدى الجامعات الأجنبية عندما وجدت لديها شغفاً بالتعرف على تأثير الجوانب السياسية في نظيرتها الاقتصادية ضمن الأزمة الأوكرانية. ستظل الشراكة الاستراتيجية بين الدول الكبرى ودول الخليج العربي خياراً استراتيجياً للجانبين لثلاثة أسباب الأول: أنه على الرغم من محورية النفط في تلك الشراكة فإن هناك خريطة متنوعة من المصالح الاقتصادية واللوجستية التي تمتلكها دول الخليج وأثبتت فعاليتها في أزمات عديدة، والثاني: أنه بغض النظر عن مضامين السياسات الدفاعية للولايات المتحدة التي تولي أهمية لمنطقة بحر الصين الجنوبي والتأكيد في الوقت ذاتها على التزامها الثابت بأمن الخليج العربي فإن محور تلك الشراكة يجب أن يحقق هدف استمرار توازن القوى في المنطقة لأن الخلل في ذلك التوازن لن يمثل تهديداً للمصالح الخليجية فحسب بل مصالح الدول الكبرى في ظل استمرار تلك المنطقة محلاً للتنافس الدولي، والثالث: التهديدات الجديدة المتنامية لمنطقة الخليج العربي ومن أهمها تهديدات الأمن البحري والتي اتخذت شكلاً عنيفاً وظفت فيه التكنولوجيا الحديثة وهو تهديد نوعي يجب أن يكون بنداً محورياً في الشراكات الخليجية مع الدول الغربية. الأزمة الأوكرانية لم تكن منشأة للجدل حول مضامين الشراكات ولكنها كاشفة لأبعاد ذلك الجدل وخلاصته أن الاعتمادية المتبادلة بين دول العالم قد جعلت العالم بمثابة قرية صغيرة فما يحدث في أوكرانيا يجد صداه في إفريقيا ليس أقلها تحدي الأمن الغذائي وهو كان تحدياً لبعض صانعي القرار في تلك المنطقة ذاتها دول تحصل على احتياجاتها من التسلح من الولايات المتحدة وفي الوقت ذاته احتياجاتها الغذائية من روسيا. ويعني ما سبق أن الأزمة الأوكرانية بقدر ما مثلت تحدياً لمصالح كل الدول فإنها في تصوري تقدم فرصة لتطوير مضامين الشراكات الخليجية- الغربية التي كانت -ولاتزال- صمام أمن واستقرار المنطقة. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :