توصينا الكتب المقدسة هكذا: «اكرم أباك وأمك لكى تطول أيامك على الأرض». نحتفل فى شهر مارس بعدّة أعياد ذات معانٍ كثيرة: يوم المرأة العالمى والمصرى وعيد الأسرة (عيد الأم). وبمناسبة هذه الأعياد، تحضرنى قصة عن عمدة القرية الذى طرأت عليه فكرة غريبة وغير إنسانية، طالبًا من أهل قريته أن يتخلّصوا من كبار السن بأى وسيلة يرونها، لأنه لا يريد سوى الشباب فى القرية. وبناءً على ذلك أخبر أحد الشباب والدته المسنّة بطلب العمدة عديم الرحمة قائلًا لها: «أنا مضطر لتنفيذ الأوامر». فاصطحبها مع بعض الأطعمة والمشروبات، ولكن قبل مغادرتهما القرية؛ طلبت منه الأم أن تأخذ معها فرعًا من الشجرة، فنفّذ لها الابن رغبتها، ثم بدأ فى السير معًا تاركين القرية، وأثناء السير كانت الأم العجوز تُلقى ورقة من فرع الشجرة على الأرض كل بضعة أمتار، واستمرت على هذا الحال إلى أن وصلا لمكانٍ مهجور بعيد عن القرية، ولكن قبل أن يترك الشاب والدته، قالت له: «أنت سوف تتركنى هنا فى رعاية الله الذى يحمينى ويرزقنى بطعامى ومعيشتى، أما أنا فتركتُ لك كل مسافة مررنا بها ورقة شجر، لتصبح دليلًا لك أثناء العودة إلى القرية لتصل بسلامٍ وأمانٍ ولا تضل الطريق». كم هى معبّرة هذه القصة فى وصفها محبة الأم اللامتناهية، مهما كانت معاملة الابن لها. يالروعة ما توحيه الأمومة الصادقة من حنانٍ وحُبٍ وعطاءٍ يسمو بالمرأة فوق مستوى البشر! ليست الأم من أنجبت فقط؛ ولكن تلك الأمهات التى يفيض منهن الحنان والعطاء دون مقابل مع من يتعاملن معه، وتلك اللاتى تكّرسن حياتهن من أجل الآخرين فى جميع المجالات، كم من هؤلاء أصبحن أمهات بديلات لأقرب الناس إليهن؟ تتشابه جميع الأمهات فى محبتهن لأبنائهن وفى نظرة العطف والشفقة والبهجة والقلق واللهفة والجزع لكل واحدٍ منهم. وتتدفق شلالات الحنان من الأم فى شرايين أبنائها، وتجرى لتصل لأعماق قلوبهم، حيث تتربع الأم فيهم قبل أى كائن على الأرض. ومما لا شك فيه أن الأم كائنٌ استثنائى خارق الطبيعة، ومهما بدت ضعيفة، إلا أنها على أتم الاستعداد لحماية بنيها وبناتها من أى خطر أو أذى يلحق بهم. فالأم هى كل شىء فى الحياة: التعزية فى وقت الضيق، والرجاء فى لحظات اليأس، والقوة فى الضعف، والحضن الدافئ الذى نسند إليه رأسنا، واليد التى تباركنا، والعين التى تحرسنا، والقلب النابض بالحُب دون أى مصالح شخصية. كما أن أمومتها تمنحها القوة لتقف على قدميها وتقاوم وتبتسم مهما كانت منهكة ومتألمة، حتى أنها تكتم متاعبها عن أقرب الناس إليها. فهى تضع نفسها فى نهاية القائمة عندما يتعلّق الأمر بالطعام والشراب والملبس والراحة والعلاج. فالأم هى إشراقةٌ وسعادة على وجه أبنائها، وهى ملاكًا أقامه الله إلى جانب كل إنسانٍ، رِضاها هو رضى الله، وبركتها بركته. هل فى الكون مِن إنسانٍ يحبّنا محبتها؟ هل يوجد فى العالم شخص يُضحّى تضحيتها؟ فهى لا تشعر بالجوع إلا بعد أن يشبع أطفالها، ولا تشعر بالدفء إلا حين ينعمون به جميعًا. كم من المرات التى تواجه فيها الأم الموت وتتحداه من أجل فلذات كبدها؟ مما لاشك فيه أن كل أم يجرى فى دمها ينات العطاء وإنكار الذات والتضحية اللامتناهية، لأنها كالشجرة التى تمتد أغصانها الوارفة لتنشر ظلالها على كل مَنْ حولها وتحميهم من وهج الحياة، وتستمد ثباتها من احتياج أولادها إليها، فتظل تقاوم وتصمد أمام أعاصير الحياة قدر طاقتها، لا خوفًا على حياتها؛ ولكن من أجل أبنائها الذين هم أغلى من الحياة عندها. لذلك مَنْ يتسلّح بأمّه وأبيه، يجد دربه منيرًا فى مستهلّه وفى جميع محطاته، كما إنه لا يهاب التجربة ولا الطريق. فهما العين الحارسة، والقلب الخافق بالأمل والرجاء، فالوالدين هما الملاك الحارس والملهم الأول لأبنائهما، كما أن صوتهما وكلماتهما ستظل تتردد فى داخل كل شخصٍ منّا كوقود لا ينضب، ما دام نحن على قيد الحياة. أمام كل هذا، نجد الغالبية العظمى من الأبناء مدركين لهذا العطاء اللامتناهى والتضحية المجانية، حتى أنهم يستمدون من والديهم القوة ويحتذون بهذا المثال الرائع والنموذج النادر؛ بينما نجد بعض الأبناء الجاحدين الذين ينهكون والديهم، ويستغلون حنانهم وعطفهم وتضحياتهم ويعتصرونهم لآخر قطرة، معتبرين عطاءهما كواجب عليهما. فتحية لكل أم وأب علّما أبناءهما القيم والأخلاق ومعنى الحياة. كل عام وجميع الآباء والأمهات بخير وسلام وصحة وبركة.
مشاركة :