عند تعاطينا مع النظرية النسوية الغربية والجندر بوصفه الأساس الذي تنطلق منه أي نظرية نسوية، يجب علينا النظر لها بوصفها تفرعًا من منظومة فكرية شاملة، تشكلت داخل سياقات الثقافة الغربية. فالباحثون العرب عجزوا عمليًا عن تقديم نظرية نسوية مستقلة عن سياقات الفكر الغربي، وكل ما يطرحونه حول المرأة والجندر، ليس إلا صدى للدراسات الغربية وتقليدًا لها. لذا تأثرت أطروحاتهم بشكل واضح بأطروحات المفكرين الغربيين، وتستطيع تمييز التشابه الكبير فيما يطرحونه بكل يسر وسهولة. لعل أهم ما يميز الحداثة الغربية وما تتضمنه من فلسفات وأفكار، سقوطها الواضح في دوامة «النسبية» كونها أهم معالم الحداثة الغربية المتجردة من أي شيء مقدس أو رباني بمعنى أنه لا يوجد بها مقدسات أو مطلقات دينية أو أخلاقية. وهذه النسبية قد ألقت بظلالها على المرأة والأنوثة، فكل الأفكار الغربية المتعلقة بالمرأة في زمن الحداثة تشهد غيابًا تامًا للقيم المطلقة التي يمكن الاحتكام لها، ولذا يصعب التمييز بين الخير والشر، وبين ما هو طبيعي (بيولوجي) في المرأة، وبين ما هو من صنيع الثقافة والمجتمع، لذلك وقعت الأنوثة بوصفها محددا اجتماعيًا للمرأة في عالم نسبي متجرد من القيمة في الخطاب الحداثي. فكل ما يتعلق بالمرأة وأنوثتها لا يمكن رصده ولا الإمساك به في سياقات الثقافة الغربية حيث لا ثوابت ولا مطلقات أخلاقية، ومن هنا ظهر الاعتقاد القائل بعدم وجود صفات جوهرية للمرأة تحددها الطبيعة البيولوجية، فكلها صفات نسبية يحددها الذكور في المجتمع أو تفسيرات ذكورية للنصوص الدينية، وهكذا يصبح الجسد الأنثوي حاله كحال الجسد الذكوري يكتسب معناه ودلالاته من الثقافة والمجتمع الذكوري عبر آلياته الرمزية (دين، أدب، فلسفة، فن). فكل ما يميز الأنثى في أي مجتمع كان، لا يمثل المرأة بل هي من صنيع الذكور كونهم هم المهيمنون على المجتمع وآلياته الرمزية وأهمها اللغة التي صارت هي الأخرى مختطفة من الذكور والثقافة الذكورية. تقول النسوية الشهيرة الفرنسية سيمون دو بوفوار: «لا تولد المرأة امرأة.. وإنما تصبح كذلك»، المقولة تختصر ببساطة حالة النسبية التي وصلت لها المجتمعات الغربية بخصوص المرأة، فالأنوثة وصفاتها نسبية وترتبط بمجتمع سابق لها يحدد صفاتها والنسق الثقافي هو المحدد الحقيقي للجسد الأنثوي وللأنوثة ولكل ما يتعلق بالمرأة، وهكذا ضربت الذات الإنسانية متمثلة في المرأة كونها تمثل ركيزة أساسية في المجتمع الإنساني بعد أن قذفت في عالم نسبي ضبابي وعائم لا يستند إلى أي مطلقات أخلاقية بل كل شيء يمكن تفسيره في إطار المنفعة، فالأديان السماوية لم تعد مرجعية موثوقة لأنها حسب الأطروحات النسوية تقع في قبضة الذكور وهم من يتحكم في تأويلها وتفسيرها. اختراع مفهوم الجندر «النوع الاجتماعي» ومنحه أهمية كبيرة على حساب الطبيعة البيولوجية كان نتيجة طبيعية لحالة النسبية المتعلقة بالمرأة والرجل على حد سواء، فالطبيعة البيولوجية في الفكر النسوي الغربي لم تعد قادرة على منح الدلالة والمعنى، وحتى فتنة الجسد الأنثوي صارت مسألة نسبية يمكن تحديدها ثقافيًا، فالجسد الأنثوي ليس فاتنًا ومغريًا بطبيعته البيولوجية، ولكن الذكور هم من أضفوا عليه صفات الفتنة والإغراء. وصرحت دو بوفوار: بأن على المرأة في حال رغبت أن تحقق الاستقلالية الكاملة من الهيمنة الذكورية، أن تغير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية، لأن دو بوفوار تعيش في مجتمع متأثر بصورة لا واعية بنسبية القيم والسلوك الإنساني.
مشاركة :